strong>بيار أبي صعب
  • ابن تيمية والأفغاني والفاسي في ربوع «الموسم الثقافي»


  • «موسم أصيلة» يجمع الفكر والأدب، الموسيقى والتشكيل، إلى الدبلوماسيّة والسياسة. ويتسع لتجارب إبداعية مختلفة، في مناخ من الحريّة وحق الاختلاف. الدورة ٢٩ فتحت ملف الشراكة بين أفريقيا وأوروبا، وناقشت الفكر السلفي، ودعت إلى إنقاذ التراث الموسيقي المتنوّع في أرض الإسلام

    كان يا ما كان بلدة صيّادين منسيّة على كتف الأطلسي، في الشمال المغربي الفقير... اسمها أصيلة تبعد ٤٥ كيلومتراً عن طنجة. داخل أسوار المدينة القديمة التي قاومت الغزاة البرتغاليين في القرن الخامس عشر الميلادي، كانت البيوت ذات الطراز الأندلسي، مستسلمة لرياح الفقر والإهمال. أما قصر الريسوني الذي بناه أحد الأعيان الخوارج مطلع القرن العشرين، فكان ينهار ببطء شاهداً على عصور ذهبيّة غابرة.
    صيف ١٩٧٨، والمغرب يعرف فورة ثقافيّة وفنيّة، خطر ببال اثنين من أبناء البلدة أن يستدرجا إليها شيئاً من ديناميّة المرحلة... محمد المليحي، سيبقى في مجال الفنّ، وهو اليوم من أبرز تشكيليّي المغرب. أما محمد بن عيسى، فانتقل إلى السياسة، وهو اليوم عمدة المدينة، ووزير الخارجيّة المغربيّة، بعدما أمضى سنوات وزيراً للثقافة، ثم سفيراً للمملكة في واشنطن. لكنّ الشكليات الدبلوماسية تنحسر، والألقاب تسقط في أصيلة المعتادة على نجوم الفن والثقافة والسياسة. ويتجاور الجميع حول جلسات النقاش أو السمر، في مختبرات الفكر والثقافة، وورش الإبداع.
    فنانون مغاربة وعرب بارزون، جعلوا من المدينة متحفاً في الهواء الطلق. جدارياتهم الأسطوريّة ارتبطت طويلاً بهذا الفضاء المستحدث... هكذا كانت ولادة «موسم أصيلة الثقافي» الذي استضاف أسماء بارزة، ورسخ رهانه على حريّة التعبير والحق في الاختلاف. في الفنّ التشكيلي أولاً، من المغربي فريد بلكاهية إلى السوري (برلين) مروان قصاب باشي، من المصري جورج البهجوري إلى السوداني (نيويورك) محمد عمر خليل. إنّما أيضاً في الأدب وفروع الثقافة على اختلافها.
    في الموسم الثاني وصل محمود درويش على ظهر حمار، وأقام الضيوف مع السكان في البيوت القديمة. كانت البنى التحتية بدائيّة. لذلك فإن من يزر المدينة اليوم لا يمكنه أن يتصوّر ماضيها القريب. إنّه الرهان الرابح لرئيس «مؤسسة منتدى أصيلة» ورفاقه: الثقافة في خدمة التنمية. قصر الريسوني استعاد بهاءه السابق، وطُوِّبَ «قصر الثقافة». وصارت البلدة المهمّشة، مدينة تتهافت عليها الشخصيات من كل الآفاق. قبل أيام نزل فيها الأمين العام للحزب الاشتراكي الفرنسي فرنسوا هولاند في زيارة استجمام، فيما احتشد في «مركز الحسن الثاني للملتقيات الدوليّة» عشرات الرؤساء والوزراء السابقين والحاليين، للمشاركة في ندوات الموسم.
    البيوت القديمة انتعشت، وتعاقبت على جدرانها الكلسيّة البيضاء أفواج من الفنانين. هذا العام طالعتنا جداريات محمد بنعيش ورحيمة العرود وحسين ميموني وعبد الرحمن وردان وعبد القادر لعرج وخالد بكاي. فيما استضاف قصر الثقافة فناني أصيلة: زهير الخراز وحسن الشركي ونرجس الجباري. أما خالد الأشعري، فعرض في «رواق القمرة»، واحتلت لوحات خالد البكاي جدران رواق الحسن الثاني. أما النشاطات الفكرية، فتراوحت هذا العام بين «مناظرة» التعاون بين أوروبا وأفريقيا، و«مؤتمر» الموسيقى في ديار الإسلام، و«ندوة» عن الفكر السلفي في العالم العربي... هكذا هي أصيلة، تمزج بين المقاربات والقضايا وزوايا المعالجة، أمام جمهور مختلط من المثقفين والناس العاديين، فتتقاطع ندوة سياسية، وأخرى ثقافيّة موسيقيّة، وثالثة فكريّة، عند النقاط الأساسيّة والأسئلة الحاسمة نفسها: أين مكان العالم الثالث في زمن العولمة؟
    خلال «موسم أصيلة» يخلع محمد بن عيسى بذلة الوزير، ليعود عمدة للمدينة ورئيساً لجمعيتها الثقافيّة. لكن ذلك لا يمنعه من فتح قاعدة خلفية في خدمة السياسة الخارجية لبلاده، ضمن المهرجان المتعدد الآفاق والمشاغل. من هنا كانت هذا العام مناظرة «أفريقيا وأوروبا... تحديات الواحد والتزامات الآخر» التي حضرها عشرات الوزراء الأفارقة والأوروبيين، وفي طليعتهم رئيس السينغال السابق عبده ضيوف (رئيس المنظمة الفرنكوفونية)، والأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، ووزير الخارجيّة الاسباني ميغيل أنخيل موراتينوس. جاءت الندوة نوعاً من الإعداد غير الرسمي للقمّة الاوروبية ــــ الأفريقية المزمع عقدها في لشبونة، في كانون الأول (ديسمبر) المقبلووجّه العاهل المغربي محمد الخامس رسالة الى المؤتمرين، عبر فيها عن ايمانه بحتمية الاندماج الافريقي ــــ الأوروبي.
    وكان من الطبيعي أن يخيّم طيف العولمة أيضاً على «المؤتمر الأوّل للموسيقى في أرض الإسلام»، في زمن تشعر فيه الهويّات الوطنية أنها مهدّدة بالطمس، تحت ثقل «النمط الكوني الواحد». هذا المؤتمر الذي أراد نفسه استئنافاً لمؤتمر القاهرة الشهير (١٩٣٢)، يحمل بصمات مثقف ومنشط ثقافي يستعصي على التصنيف، هو المسرحي السوري الأصل شريف الخزندار، المدير الحالي لـ«دار ثقافات العالم» في باريس (تخلفه ابتداء من الموسم المقبل أرواد إسبر). شارك ستون باحثاً من العالم في طرح قضايا جمالية وفكرية وتقنية تتعلق بتراث موسيقي متنوّع مهدّد بالاندثار. وكان يستحسن أن ترافق المؤتمر برمجة موسيقية متنوّعة ومتكاملة، على طريقة مؤتمر القاهرة القديم الذي أدى دوراً في حفظ تجارب وأصوات، من محمد القبنجي إلى الشيخ العفريت.
    ولا بد من التوقف عند مداخلة الباحث جان لامبير الذي تناول التراث الموسيقي اليمني المهدد بالاندثار. فيما أخذنا الباحث والموسيقي اللبناني نداء أبو مراد إلى فسحة تأمّل نظرية في مسألة «التقليد» بصفته «إحياءً» للتراث. وأصدر المؤتمرون مجموعة توصيات أهمّها إحياء التراث واستلهامه وحمايته. كذلك تقرر عقد المؤتمر دورياً (كل ثلاث سنوات). وجاء البرنامج الموسيقي المنوّع، امتداداً عفوياً لنقاشات النهار. مسك الختام كان مع السوريّة وعد بوحسّون برفقة «جوق الهلال» التطواني (راجع البرواز)... ومن الأمسيات الأخرى حفلة الموسيقي الهندي أمجاد علي خان الذي عزف على آلة السارود ترافقه الطبلة. وصفق الجمهور لبيدرو جاوا، أحد نجوم الغيتار الصاعدين في البرتغال. وحضرت الموسيقى الباكستانية، وفنّ الفلامنكو، والموسيقى الكلاسيكية الغربيّة... إضافة إلى الفرق المغربيّة: من «الكناوى» إلى الموسيقى الصوفيّة، مروراً بالموسيقى الأندلسيّةوكان مسك الختام ندوة بعنوان «النخبة المثقفة والفكر السلفي في الوطن العربي». في عز أجواء التوتّر والتخوف من الخيارات الراديكاليّة المتطرفة والعنيفة، لم تتردد ادارة الموسم في مناقشة خلفيات الفكر السلفي بمختلف مقارباته وتجلياته. لم يأت نصر حامد أبو زيد للأسف، ولا غسان سلامة الوزير اللبناني السابق، لكن الوزير طارق متري جاء من بيروت، ليجد نفسه في قلب موضوع أثير هو من اختصاصه. ولفت الأنظار المشاركان السعوديان جميل الذيابي وتركي الدخيل، بمواقفهما النقديّة والجريئة من الطرح السلفي... فيما ذكّرت البرلمانية والكاتبة رشيدة بنمسعود أن «السلفيّة» لها أبعاد تنويريّة، وأعطت مثالاً فكر علال الفاسي الذي كان أوّل من دعا بين الفقهاء إلى تعليم المرأة ومنهجه. فيما دافع أحمد المديني عن «التنوّع الثقافي»، وشنّ حسونة المصباحي حملة شرسة على الفكر الظلامي الذي لا يعترف بالاختلاف.
    استنجد مشاركون بمحمد عبده والأفغاني، واستحضر آخرون علال الفاسي وخير الدين التونسي والطاهر بن عاشور، أو قاسم أمين وعلي عبد الرازق والطاهر حداد... وهناك من قال إننا نعيش في زمن ابن تيمية، أو من أعلن أننا في حاجة إلى مارتن لوثر إسلامي.
    المفكّر المغربي علي أومليل، ذكّر بأن الفكر السلفي في الأساس قام على ثنائية التمدن والانحطاط، وفتح باب المصلحة، وعدّ التحديث غايته... ثم عاد أومليل، وهو حالياً سفير المغرب في لبنان، إلى وحول الواقع: التعليم هو الطريق إلى توسيع قاعدة الديموقراطيّة... فيما الهوّة التربويّة الآخذة في الاتساع بين النخبة والكثرة الكاثرة التي تدور على نفسها، هي أرضيّة خصبة لكل أشكال العنف والتطرّف. أما الوزير طارق متري، فتوقف بإيجاز عند سؤال المواطنة، وعند العلاقة بين الحق والقوّة: «مشكلتنا ليست أننا أصحاب حق، بل اننا لا نعرف كيف نستحق حقّنا»!




    وعد بوحسّون احفظوا هذا الاسم! وعد بوحسّون من جيل آخر، لكنّها تنتمي إلى مدرسة الفنّ الأصيل. عازفة العود والمغنية الآتية من حلب، اختارت الطرب الذي تدرس أصوله منذ الثامنة في حلب، في زمن الموسيقى الاستهلاكيّة السهلة. ذات يوم اكتشفها شريف الخزندار خلال إخراجه مونودراما لمها صالح في دمشق. كان في حاجة إلى كومبارس تجيد العزف وتلاوة الشعر، فجيء له بصبيّة خجول، تختبئ خلف عودها. وما أن صدح صوتها بأبيات شجرة الدرّ، حتّى فهم أنّه أمام موهبة استثنائيّة. الصوت بطابعه وقوّته، من طينة نادرة في الذاكرة الطربيّة العربيّة. ما هي إلا أشهر حتّى كانت تحيي حفلتها الأولى في حلب، وتأخذ مباركة «شيوخ السماع» في مدينتها العريقة، للانطلاق على طريق محفوفة بالصعاب. وتوالت الحفلات: من مهرجان المدينة في تونس (٢٠٠٦)، إلى مهرجان الموسيقى الروحيّة في فاس (صيف ٢٠٠٧) حيث غنّت أشعار جلال الدين الرومي، مروراً بباريس حيث تعود في الربيع المقبل، لتغنّي في دار الأوبرا أشعار رابعة العدويّة.
    وعد من بلد أسمهان، وهذا الصيف في أصيلة التي تزورها للمرّة الثانيّة غنّت أم كلثوم وفايزة أحمد. كانت حنجرتها تعاني بعض المشاكل، لكنّها تمرّدت عليها، التمعت عيناها الخضراوان بشرارة مدهشة وغنّت. إنّه مزاج الفنانين الحقيقيين، دائماً على حافة الهاوية... التي تفصل الخشبة عن الجمهور. وعد بوحسّون: احفظوا جيّداً هذا الاسم!