القاهرة ـــ محمد شعير
  • «مجمع البحوث الإسلامية» يحاصر الثقافة المصريّة


  • عادت إلى الواجهة أخيراً في القاهرة قضية رقابة المؤسّسة الدينية على الكتب، بعد أن حلّت لعنات «مجمع البحوث الإسلامية» على أربعة مؤلفات «تتنافى مع العقيدة» برأي الذين كتبوا تقارير المصادرة. من يملك الحق والسلطة في تحديد حريّة التفكير والنشر في العالم العربي؟

    إذا كانت مؤسسات الرقابة في مصر كثيرة ومتعددة، فإن أخطرها على الإطلاق هو «مجمع البحوث الإسلامية»، لأنّه يتمتّع بسلطات كبيرة، ويرى نفسه متحدثاً باسم الدين، ولديه «الحقيقة المطلقة»! والسلطة السياسية الغارقة في تواطؤاتها وفسادها، لا يسعها سوى أن تنحني لرقابة الأمر الواقع تلك، فتعطيها شرعيتها وسلطتها!
    في حزيران (يونيو) 2004، صدر عن الحكومة المصرية قرار لم يلفت انتباه كثيرين آنذاك، قضى بتفويض يمنحه وزير العدل إلى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر لممارسة الضبطية القضائية. حينذاك، لم تكن الحكومة قد أفاقت بعد من الأزمة التي سببتها رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر التي تبعتها أزمة أخرى عن روايات ثلاث طبعتها أيضاً وزارة الثقافة، وأثارت احتجاجات نواب الإخوان المسلمين الذين رأوا أنها تحتوي على ما يخدش الحياء العام. هكذا قررت الحكومة أن تغلق الباب الذي تأتيها منه الريح، وأن تمنح الأزهر وسيلة اتصال مباشرة بأجهزة الرقابة الفنية. ومع هذا التفويض، بات يمكن أي من رجال «مجمع البحوث الإسلامية» التابع للأزهر، أن يصادر فوراً أي كتاب يرى فيه تعدياً على «المعلوم من الدين بالضرورة».
    و«مجمع البحوث الإسلامية» يعقد اجتماعاً شهرياً، يناقش فيه ــــ من جملة ما يناقشه ــــ تقارير فحص الكتب ومراقبتها. في اجتماعه الأخير، قرّر أعضاء المجمع مصادرة أربعة كتب هي «الدنيا أجمل من الجنة» لخالد البري الذي صدرت طبعته الثانية عن «دار ميريت» أخيراً، وكانت «دار النهار» البيروتية أصدرت طبعته الأولى منذ سبع سنوات. أما الكتاب الثاني فهو «ركعتان في العشق: دراسة في شعر البياتي» للباحث روبين سنير، وصدر عن «دار الساقي» في بيروت. والثالث هو «إلا أمير المؤمنين» لخليل عبد الكريم وصدر عن «دار الانتشار العربي». أما الكتاب الأخير على لائحة المصادرة فكان «العالم الرباني سيد قطب» للعشماوي أحمد سليمان... وصدر عن «دار النشر السعودية»! ويجمع بين تلك العناوين ــــ إضافة طبعاً إلى موضوعها ــــ أنها صادرة خارج مصر، باستثناء طبعة مصرية لكتاب خالد البري.
    أما تقارير المصادرة التي ناقشها «المجمّع»، فشارك في تحريرها ثلاثة علماء، بينهم الماركسي السابق والشيخ الحالي محمد عمارة الذي كتب تقريرين عن خليل عبد الكريم والعشماوي أحمد سليمان. ووصف كتاب «إلا أمير المؤمنين» بأنّ صاحبه «هلك منذ سنوات، وله عشر كتب جميعها طعن غير مسبوق في الإسلام ورسوله وصحابته، وقد بدأ حياته محامياً وعضواً في جماعة الإخوان المسلمين، ثم انتهى به المطاف مادياً وعضواً في حزب التجمع اليساري». وهو تاريخ مناقض لسيرة عمارة نفسه الذي بدأ ماركسياً وانتهى «إخوانياً»... صارت مهمّته «تكفير» المؤلفين الذين لا يوافقون أفكاره. ولم يكتف الشيخ عمارة، في تقريره، بالهجوم على المؤلف الراحل، بل أيضاً على ناشر الكتاب. إذ قال «هذا الكتاب في الأصل مجموعة مقالات سبق نشرها فى مجلة «الكشكول» اللبنانية، ثم جمعتها ونشرتها هذه الدار الشيعية اليسارية!
    الكتاب الثاني «العالم الرباني سيد قطب» الذي طالب عمارة بمصادرته صدر منذ أربعين عاماً، ولا أحد يعرف لماذا تذكّره المجمع وأعضاؤه الآن، بل نشره مؤلفه في السعودية كما يقول عمارة في تقريره «في ذروة الصراع الدامي بين ثورة يوليو والحركة الإسلامية». المدهش، كما جاء في التقرير، أنّ عمارة أراد بتقريره قطع الطريق أمام أي دار نشر لإعادة طبع الكتاب غير المتداول أصلاً، إذ كتب في تقريره: «هذا الكتاب غير معروض للتداول الآن، وعلى افتراض أنّ هناك طلباً لإعادة طبعه، فأرى أن إعادة طبعه الآن فيها من المفاسد أكثر ممّا فيها من المصالح لأنّه ينكأ جراحاً قديمة تتجه أطراف الصراع فيها إلى العمل على اندمالها ناصريين كانوا أم إسلاميين». وسبب آخر لطلب مصادرة الكتاب في المستقبل، أنّه يصدر أحكاماً قاسية على بعض المشاهير بينهم وزيرا الأوقاف السابق أحمد حسن الباقوري، وعبد العزيز كامل اللذان وصفهما الكتاب بأنهما «يدعوان للاشتراكية وطواغيتها». وفي التقريرين لا نفهم حقيقة: هل الشيخ عمارة مع الاشتراكية أم ضدها... أم أنه مسكون بشهوة المصادرة ليس إلا!
    الدكتور طه أبو كريشة كتب تقرير مصادرة كتاب «ركعتان فى العشق»، وهو دراسة نقدية في شعر البياتي. وجاء في التقرير: «البياتي من شعراء العصر الحديث الذين لم يلتزموا عمود الشعر العربي فى أوزانه وقوافيه، إلى جانب عدم الالتزام فى المضمون بثقافة التراث». وهو مبدأ لو تم الأخذ به فسيصار إلى «تكفير» كل شعراء التفعيلة والنثر بداية من صلاح عبد الصبور ونازك الملائكة حتى أصغر شاعر يكتب شعراً. والسبب الثاني للمصادرة حسب تقرير الشيخ «أن عنوان الكتاب يكشف استهانة بالرموز الخاصة بالعبادات، وهذه الاستهانة تدل على ما وراءها».
    الدكتور بكر ذكي عوض كتب التقرير الخاص بكتاب خالد البري «الدنيا أجمل من الجنة»، فأشار إلى ضرورة حذف خاتمة الكتاب ليُسمح بطبعه، إذ تتضمن الخاتمة جملاً تستحق الحذف، بينها «مع صديقي اليساري تعلمت متعة الشك»، أو «عندما شاهدت فيلماً جنسياً صريحاً لأول مرة أصابني القرف، لكن الفيلم أزال الضباب عن عيني شاب تربّى على الأوهام».
    خالد البري، الذي يقيم في لندن، رفض التعليق على قرار المصادرة. أما ناشر الطبعة المصرية من الكتاب محمد هاشم صاحب «دار ميريت»، فرأى أنّ «قرار مصادرة الكتاب ليس سوى حرب بالوكالة يخوضها المجمع نيابةً عن جماعة العنف التي كانت تخوض حالة إرهاب ضد المجتمع المصري طوال عقد التسعينيات».
    والمدهش أنّ الكتاب تم الاحتفاء به في مصر يوم صدور طبعته الأولى عن «دار النهار»، وتسابقت الصحف المصرية الكبرى إلى نشر مراجعات عنه. ووصل الأمر ببعضهم حدّ اقتراح الكتاب على طلاب المدارس... حتى لا يقعوا فريسةً في أيدي جماعات الاسلام السياسي! وظهر صاحب التقرير على التلفزيون المصري أخيراً، مدافعاً عن فكرة مصادرة الكتاب، لكنّه لم يقدّم أيّ حجة قوية، سوى عنوان الكتاب «الدنيا أجمل من الجنة»، خصوصاً أنّ كمال حبيب، أحد قادة الجهاد التاريخيين، أعرب في البرنامج نفسه عن دهشته من الدعوة إلى مصادرة هذا الكتاب.
    لكن لماذا تبدو الرقابة قدراً على المثقف العربي لا يستطيع منها فكاكاً؟
    نبيل عبد الفتاح الباحث في شؤون الأديان يجيب: «الغلاة من رجال الدين يستفيدون من استخدام نزعة التكفير إزاء بعض القصائد والروايات والمبدعين، في محاولة للسيطرة على العوام وبناء سلطة رمزية، لا سيما في ظل تشكيلات برلمانية لا تأبه كثيراً بالشعر ولا بالرواية، مما يسهّل توظيف بعض النواب في إصدار أحكام دينية وأخلاقية على بعض المبدعين والنصوص السردية التي لم يقرأوها، وليس في إمكانهم تقويمها نقدياً، لكنهم يستسهلون استخدام الإدانة الدينية والأخلاقية في عملية تحقيق الرواج السياسي عبر وسائل الإعلام». ويضيف عبد الفتاح: «الإنتاج الأدبي يمثّل هدفاً رخواً يسهل إنزال الهزيمة السياسية به، تحت دعاوى إيمانية أو الدفاع عن الهوية والآداب العامة، ومن ثم يبدو سلساً تعبئة الجمهور بسبب الجهل وتدهور الذائقة الأدبية».
    هل يبحث إذاً أعضاء مجمع البحوث الإسلامية عن شهرة في تكفير النصوص؟
    رفض كثير من الأعضاء الإجابة عن السؤال... تحجج بعضهم أنه في «مصيف»، ونفى آخرون مشاركتهم في مصادرة الكتب الأخيرة «لأنهم لم يحضروا الاجتماع من أصله»!