رام الله ــ يوسف الشايب
الشاب الدنماركي العشريني يرحل مع هالة الصمت إلى حيث يدري ولا يدري، يطأطئ رأسه، ويعيش مع ذاته، هموماً تفضح ملامح وجهه. هذه الصورة تبدو مشابهة لتلك التي يبدو فيها رجل فلسطيني في الستين من عمره وهو يطأطئ رأسه أيضاً أمام متجره العتيق في رام الله على رغم اختلاف الجغرافيا، والزمان، والهموم أيضاً. في معرضه «انطباعات حضرية» الذي يقام حالياً في المركز الثقافي الألماني الفرنسي في رام الله، يرحل المصور الفوتوغرافي الفلسطيني، يزن الخليلي مع المتفرجين في مقارنة «غير مقصودة» بين رام الله، والقاهرة، وكوبنهاغن ليرصد مشاهد عاشها وعاشتها كاميرته في قرابة عشرين صورة منتقاة بين مئات.
في الركن البعيد هناك، ظلال أناس يعبرون في شارع ما في مدينة ما. وفي الركن الآخر، نرى حاوية قمامة تبدو وحيدة في سواد الليل، وعلى مقربة منها قطّ يتمشى بحرية في شارع مدينة تبدو أنّها خارج فلسطين، حيث لا حظر للتجوال قد يأتي على حين غرّة ولا اقتتال داخلياً يرعب المارة.
وجوه يزن الخليلي تبدو متشابهة، وغير متشابهة، لكنها حياة المدينة، أو «يزن المديني» كما يقول، فمعرضه ليس توثيقاً لهذه المدن على الإطلاق بل رحلة انطباعية تغوص داخل المصور الفلسطيني الذي عمد إلى اكتشاف «الحضري» داخله.
المطار، محطة المترو، المقهى، الشارع، الليل والنهار ، كلّها صارت حكايات مصورة، تمكّن الخليلي من محاكاة تعقيداتها بحساسية كبيرة، جعلتنا نكتشف عوالم لم تكن لتشغلنا حتى تلك التي «تنبش» في تفاصيل حياة الفلسطينيين، في شوارع خاوية، أو مكتظة، كما في المقهى الذي لطالما اعتدنا قضاء ساعات فيه، منهمكين بلعبة نرد لا يؤمن جانبها، وبالبحث عن شبكة جيدة لإرسال بريد إلكتروني مستعجل أو بجمرة تشعلنا كما النرجيلة.
يؤكد الخليلي: «لست معنياً بتوضيح الموقع الجغرافي للصورة. هي مدينة ما في العالم. المهم أنّني أتحدث وكاميرتي عن يزن المديني الذي عايش المدينة بليلها ونهارها، بصخبها وهدوئها. أحياناً كنت أبحث عن رام الله في هذه المدن، وكثيراً ما كنت أجدها، وأحياناً أخرى لم أكن أهتم بذلك» ويضيف: «كفلسطيني يبدو السفر بالنسبة إليّ حلماً قد يكون مستحيلاً في بعض الأحيان، بسبب الحواجز العسكرية الإسرائيلية والإغلاقات المتكررة للمدن والمعابر، وجدار الفصل العنصري وغيره. الصور تحاكي تفاصيل المدينة وتفاصيل حكاياتي اليومية معها».
يلغي الخليلي بعدسته الحدود الفاصلة بين المدن، فالتفاصيل تبدو ذاتها.. أزمة خانقة، وجوه متجهمة، وعصبية تزداد مع ضغوط الحياة، وهو ما يميزها عن الأرياف التي تبدو فيها تلك الظواهر أقل حدّة. يقول: «حتى الآن لا يمكنني القول إنّني أعرف كل تفاصيل الحياة في المدينة. لكنّني خضت هذه التجربة، وأتمنى أن أكون وفّقت في اكتشاف تفاصيل داخلي وداخلها».
أستاذ الفنّ الفرنسي باسكال جانوفكاك قال خلال تجواله في معرض الخليلي: «إنها مدينته التي يدعوكم إلى اكتشافها أينما كانت. يعيركم يزن نظرة المعماري كي تروا البنى المختبئة والنزوات الهندسية. هكذا، يخطف العين خط الرسم وتماثل المنظور حوله، حتى يستقر البصر على الدوائر المتكررة للغسالة الأوتوماتيكية قبل أن يضيع في فوهة نفق... ومن هذا، يخرج تصميم غرافيكي ببرودة، إذا لم تخترقه سمات غير منتظمة لقوام ما أو لوجه لطيف، وبشكل خاص الحرارة ونستغرب أنّها صادرة عن ضوء كهربائي.. الأخضر والبرتقالي والأصفر، تلك الألوان التي تخترق العتمة وتكشف عن الطاقة التي تتفجر في إضاءات النيون الخاصة بالمحال التجارية واليافطات والإضاءة الداخلية للحافلة، وإشارات السير. نشعر بدوار من السرعة، وارتجاج الكهرباء التي تسكن المدينة والتي تجدونها مرة أخرى في النهار، حيث نلمحها في إشارات قطار يجوب الضواحي، وفي سلك معلّق فوق مبنى قيد البناء، ونتتبع أسلاكها المعلقة في مقابل السماء الزرقاء... فزخم المدينة يتزاوج مع هوس مشاهدها وسكانها. الرجال والنساء الذين تراهم فجأة يظهرون دائماً كما لو كانوا تائهين، نظرتهم في اتجاه آخر، وأحياناً يحتمون بالنوم. وظلال على الرصيف البراق، أجسام نحيلة تختفي في عمق ممر تحت الأرض... وحيدة حتى في صخب المقهى، وضجيج رصيف المترو... إنه مجتمع وهمي، فكم هي خدّاعة تلك النوافذ التي تدع البصر ينفذ لكنها تفصل الناس، والتي لا تعكس لنا سوى صورتنا نحن».