strong>عثمان تزغارت
  • فيلم مهدي شارف يؤنسن «سنوات الجمر»


  • مهدي شارف تصالح مع طفولته أخيراً، وحقق فيلماً يتجاوز حساسيات مرحلة حرجة من التاريخ الجزائري والفرنسي. «كارتوش غولواز» ليس عملاً يضاف إلى قائمة الأفلام التي تناولت حرب التحرير، فابن العامل المهاجر الذي اكتشفه كوستا غافراس، يتحرر هنا من الغنائية وتمجيد البطولة... ويجرؤ على المحرّمات!
    سؤال سياسي يتبادر إلى الأذهان بعد مشاهدة Cartouches Gauloises للسينمائي الجزائري المقيم في فرنسا مهدي شارف: هل أصبحت «حرب الجزائر» أخيراً ــــ وبعد مرور 45 سنة على نهايتها ــــ موضوعاً «عادياً»؟ هل يمكن تناولها سينمائياً من دون أن تنهال على مَن يغامر بركوب مثل هذه المجازفة، التهم والهجمات التخوينية، سواء على هذه الضفة أم تلك من المتوسط؟
    الفيلم الذي يُعرض حالياً في الصالات الفرنسية، قُدّم ضمن التشكيلة الرسمية لمهرجان «كان» الأخير (خارج المسابقة). وكان لافتاً أيضاً الاحتفاء الذي خُص به، خلال السهرة الجزائرية الرسمية على هامش ستينية «كان» برعاية وزارة الثقافة الجزائرية. ويعدّ الشريط أول عمل سينمائي عن «حرب التحرير» يُنجز بإنتاج مشترك فرنسي ـــــ جزائري (ميشال راي غافراس عن الطرف الفرنسي، وسالم براهيمي عن الطرف الجزائري).
    لا شك في أن مهدي شارف أحسّ بأن هذا العمل المستوحى من ذكريات طفولته، سيزجّ به في أرض ملغومة. لذا تردّد عشرين عاماً قبل تقديمه. وكان قد شرع في كتابته مباشرة بعد فيلمه الثاني «الآنسة منى» (1986)، إلا أنه أحجم عن تصويره، متحجّجاً بمشاريع سينمائية أخرى «أكثر نضجاً». وها هو يعترف اليوم بالأسباب الحقيقية التي عطّلته: «خشيتُ أن أوقظ جراحاً دفينة في ذاكرتي وأن يتحوّل هذا العمل ـــــ رغماً عني ـــــ إلى شيء مغاير لما أردت التعبير عنه. خفتُ أن يستولي عليه الآخرون، ويحوّلوه عن وجهته الأصلية، ليصبح عرضة للسجالات والتأويلات، الصادق منها أو المغرض... كان اهتمامي كله منصبّاً على شيء واحد: لقد سُرقت مني طفولتي مرةً، ولا أريد لأحد أن يسرقها مني من جديد. جرح واحد يكفي!».
    انتظر صاحب «شاي في حريم أرخميدس» عشرين عاماً... لكن التوتّر الذي يشوب العلاقات الفرنسية ــــ الجزائرية بفعل الحساسيات الموروثة عن حرب التحرير ازدادت حدّته، وخصوصاً خلال العامين الأخيرين، بعدما اشتعلت السجالات مجدّداً إثر «قانون محاسن الاستعمار» الذي سنّه البرلمان الفرنسي عام 2006. ويصعب القول إنّ الإجماع الذي قوبل به هذا الفيلم يشير إلى تراجع الاحتقان العاطفي الذي يحيط بموضوع حرب الجزائر في كلا البلدين. في الأدبيات الفرنسية الرسمية، ظلت هذه الحرب طوال أربعين سنة توصف بـ«أحداث الجزائر»، ولم يعترف البرلمان الفرنسي بأنها كانت حرباً إلا في نهاية التسعينيات! أما التضييق على الأعمال الفنية المتعلقة بهذه الحرب، فخير مثال عليها فيلم «معركة الجزائر» للإيطالي جيلو بانتيكورفو (1966) الذي ظل «غير مرغوب فيه» في صالات العرض الفرنسيّة، حتى صيف عام 2004!
    أما في الجانب الجزائري، فإن قضايا حساسة عدة ما زالت طي الصمت والتجاهل الرسمي، وخصوصاً تلك المتعلقة بالصراعات بين قادة «جبهة التحرير الجزائرية»، والتصفيات التي سلّطها «الثوار المجاهدون» على من لم يلتحقوا بصفوفهم من مناضلي الفصائل الأخرى للحركة الوطنية الجزائرية، أو على المدنيين العزل من سكان القرى غير المتعاونة مع الثورة... فضلاً عن «الحرْكيين» الذين تعاونوا مع الاحتلال الفرنسي، وذُبح منهم 40 ألفاً في الأسابيع الأولى من الاستقلال.
    كل هذه المواضيع الشائكة استطاع مهدي شارف طرحها من دون مواربة في فيلمه. ونجح أيضاً في أن يحمي ذكريات طفولته، من الجدل العقيم والمزمن الذي يلقي بظلاله على تاريخ حرب الجزائر. ولعل الفضل في ذلك يعود إلى شخصيّة هذا السينمائي المغاير، ومساره المميز. فهو وُلد في مدينة مغنية (مسقط رأس الرئيس بن بلّة، على الحدود مع المغرب) قبل عامين من انطلاق حرب التحرير. وهاجر إلى فرنسا بعد عام واحد من استقلال البلاد مع والده، المجاهد الذي لم يجد أمامه سوى الهجرة إلى فرنسا، بحثاً عن لقمة العيش، وأصبح عاملاً في مصنع.
    ابنه مهدي مارس المهنة نفسها منذ الثامنة عشرة، ولم يتركها إلا بعد صدور روايته الأولى «شاي في حريم أرخميدس» (1983)، إذ تلقفها السينمائي غوستا غافراس ورفيقة دربه المنتجة ميشال راي، وشجّعاه على أن يقتبسها سينمائياً ويتولى إخراجها بنفسه. وكان حدسهما في محله: حقّق الفيلم رواجاً عالمياً، بشّر بميلاد سينمائي مميز، ونال 7 جوائز بارزة منها «سيزار» أول عمل سينمائي في فرنسا، و«جائزة الشباب» في «مهرجان كان».
    الهجرة المبكرة بعد سنة من استقلال الجزائر، أبعدت مهدي شارف عن الأجواء الشوفينية وعن «الأنا» القومية المنتفخة التي عكّرت صفاء الرؤية لدى الجيل الأول للاستقلال في الجزائر... ووفّرت عليه لاحقاً الخيبات التي تمخضت عنها إخفاقات الدولة الوطنية، ما يفسّر الشفافية التي صوّر بها ذكريات طفولته في الأتون الجزائري، مغلّباً النفَس الإنساني على الرمزيات البطولية، والأوهام الملحمية التي عوّدتنا إياها سينما الحرب الجزائرية.
    استطاع مهدي شارف أن يختزل كل تمزّقات تلك المرحلة وتجاذباتها، في قصة صداقة طفولية تنشأ بين الصبي علي بائع الصحف العربي (وهو معادل مهدي شارف الطفل في الفيلم)، وثلاثة أطفال. نيكو الفرنسي الذي يواجه علي بالسؤال المحرج: «هل صحيح أن والدك إرهابي؟»، فيما أمه أوهمته أن والده المجاهد هاجر إلى فرنسا. دافيد اليهودي الذي لا يعرف موقعه بالضبط هل هو من أهالي البلد الأصليين أم من الوافدين الأوروبيين (على عكس العجوز اليهودية راشيل التي ترفض الرحيل بعد الاستقلال، قائلة: أفضّل أن أموت هنا بسكين عربي على أن أعيش المهانة هناك على أيدي الفرنسيين). وجينو الإسباني الذي يناشد دافيد قائلاً: لا ترحل، فهناك في فرنسا لا يطيقون اليهود!
    عبر مغامرات هذا الرباعي الطفولي، يقدّم الفيلم نظرة بانورامية، متجرّدة من أي أفكار مسبقة، تحيط بكل آلام الحرب وبشاعاتها، بعيداً عن أي خطاب اختزالي. حتى إنّ عنوان الفيلم يحمل معنيين: Cartouche تعني «كرتوشة» (باللبنانية «غروز») أي غلاف كرتوني يحتوي على كمية من علب السجائر، وفي الوقت ذاته «خرطوش» أي ذخيرة رصاص. أما Gauloises، فهي ماركة السجائر الفرنسية الأكثر رواجاً في المغرب العربي. لكن الـ Gaulois تعني أيضاً الفرنسي...
    فيلم مهدي شارف الجديد، يأتي متوازناً، ومخالفاً للنظرة الأحادية المعتادة. فبشائع جيش الاحتلال الفرنسي حاضرة بقوة، عبر شخصية الضابط لاوران الدموي والعنصري. لكن تقابلها شخصية فرنسية أخرى إيجابية ومسالمة، تتمثل في حارس محطة القطار بيرنابي المحبوب الذي يشعر حين يتلقى قراراً إدارياً بنقله إلى Sarcelles إحدى ضواحي باريس، بأنّه ذاهب إلى الغربة!
    من نقاط القوة في الفيلم أيضاً، المقاربة الإنسانية المؤثّرة التي قدّم بها الموضوع الأكثر إشكالية في حرب الجزائر، والمتعلق بـ«الحرْكة» (الجزائريون المتعاونون مع جيش الاحتلال)، إذ تناوله مهدي شارف من دون تحيّز عبر شخصية إشكالية هي جلول الحرْكي الفظّ والعنيف الذي يثير الرعب في نفس الطفل علي، كلما صادفه أثناء الحرب... لكنّه يشعر بالأسى عليه حين يراه بعد إعلان الاستقلال، عارياً ومقيّداً في مخزن مهجور... في انتظار ذبحه!