باريس ــ عثمان تزغارت
لماذا لا يفرد الإعلام الأوروبي مساحة كافية للأصوات الإسلامية المعتدلة؟ انطلاقاً من هذا السؤال، تخصص Arte، هذا المساء، سهرة كاملة لمعالجة قضايا الأصولية، وتعطي الكلمة للمدافعين عن المشروع التنويري... هل تكسر القناة الفرنسية ــــ الألمانية الصورة الاختزالية التي تحاصر العرب في التلفزيونات الغربية؟

«مسلمون ضدّ الإسلاميين» هو عنوان السهرة الخاصة Thema التي تخصّصها القناة الثقافية الفرنسية ـــــ الألمانية Arte مساء اليوم، لتثمين نضالات المثقفين المسلمين المتنورين ضدّ التطرف الإسلامي الأصولي. وهذه هي المرة الأولى التي يُعالج فيها موضوع الأصولية الإسلامية من منظور إسلامي معتدل في برنامج بهذا الحجم (ساعتان و25 دقيقة)، يعرضه تلفزيون غربي بارز...
تفسّر Arte خيارها هذا، موضحةً في مقدّمة البرنامج: «من هم أول ضحايا الإسلاميين المتطرفين؟ إنهم المسلمون المعتدلون. ومَن هي طليعة المتصدّين للتطرف الإسلامي الأصولي؟ إنهم المثقفون المتنورون في العالم الإسلامي. فلماذا لا تفسح وسائل الإعلام الغربية مكانة كافية لهذه الأصوات الإسلامية المعتدلة؟ هل قدر المسلمين المتنورين أن يظلّوا «أغلبية صامتة»، لا في العالم الإسلامي فحسب، بل حتى في أوروبا؟ من هذا المنطلق، قرّرنا أن نُفرد هذه السهرة بأكملها لهؤلاء المثقفين المسلمين، وألّا نعطي الكلمة لأحد سواهم في هذا البرنامج، وذلك تثميناً لجهود ونضالات هؤلاء المثقفين والباحثين والفنانين والصحافيين الذين كثيراً ما يعرّضون حياتهم للخطر، من أجل مقاومة التطرّف والتصدي للرؤى الأصولية التي تشوّه ديانتهم»...
يتضمن البرنامج ثلاث فقرات، مدة كل واحدة منها 45 دقيقة (شريطان توثيقيان، تليهما حلقة نقاش على الهواء مباشرة). هكذا تُفتتح السهرة بفيلم «رجل غاضب» Un Homme en Colère من إخراج فابريس غارديل وأنطوان فيتكن. وهو عبارة عن بورتريه للكاتب الصحافي الجزائري محمد سيفاوي الذي لفت الأنظار في السنوات الأخيرة بتحقيقاته المدوّية عن جماعات الإسلام الراديكالي، ومن أبرزها كتابه «إخوتي القتلة: كيف اخترقتُ خلية لـ«القاعدة» في فرنسا» (2002). وهي التجربة التي اقتبس منها شريطاً توثيقياً حيّاً، تم تصويره بكاميرا خفية، ما جعل الكاتب يحقّق مبيعات قياسية.
في شريطهما، يثمّن فابريس غارديل وأنطوان فيتكن شجاعة هذا الصحافي الذي نجا عام 1994 من عملية تفجير استهدفت جريدة «لوسوار دالجيري» حيث يعمل في الجزائر، فلجأ إلى فرنسا حيث حصل على اللجوء السياسي في عام 1999، ليواصل نضالاته ضدّ الإسلام الراديكالي. لكن هذا الشريط يغفل العديد من المآخذ و«مناطق الظل» المثيرة للجدل في تجربة محمد سيفاوي. ولعلّ أبرزها قضية اشتراكه في كتابة اعترافات الملازم الجزائري حبيب سوايدية «الحرب القذرة» التي كشفت تورّط الجيش الجزائري في ارتكاب جرائم ومجازر انتقامية ضد الموالين للإسلاميين خلال سنوات الحرب الأهلية. ثم انقلب على الكتاب وتنكّر له، ووقف شاهدَ دفاع إلى جانب الجنرال خالد نزار في محاكمة «الحرب القذرة» الشهيرة في باريس. كما أن حب سيفاوي المبالغ فيه للأضواء الإعلامية، جعله المثقف المسلم الوحيد الذي وقف في فرنسا شاهدَ دفاع عن صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة خلال المحاكمة المتعلّقة برسوم الكاريكاتور الدانماركية المسيئة للرسول محمد. وكان بإمكان الشريط إثارة هذه القضايا الإشكالية ومناقشتها مع سيفاوي، الأمر الذي لم يكن لينتقص، بكل الأحوال، من نضالاته ضدّ الإسلام المتطرف.
الفقرة الثانية من هذا البرنامج ـــــ وهي أبرز محطات هذه السهرة ـــــ تتمثل في شريط توثيقي لليلى سالمي ومالك شبل بعنوان: «النبي محمد والنساء» Le Prophète Mahomet et Les Femmes. يبرز الفيلم الوجه السمح والمشرق للإسلام في مواقفه الأصلية من قضايا النساء التي كانت ثورية ومتقدّمة على عصرها، خلال العهد النبوي، قبل أن تنتكس هذه المواقف لاحقاً على أيدي فقهاء التزمّت الذين جعلوا من الشريعة الإسلامية مطية للرؤى الذكورية، وأداة لتهميش النساء والانتقاص من مكانتهن. وتتحدث في الشريط نخبة من أبرز الباحثين المتخصصين في التاريخ الإسلامي، أغلبهم فرنسيون أو مقيمون في فرنسا، إلى جانب عدد من المفكرين المدافعين عن إسلام معتدل ومتنور منهم: يوسف الصدّيق، وعبد الوهاب المؤدب، ورشيد بن زين، وألفت يوسف، وعادل رفعت، وبهجت ناجي...
أما حلقة النقاش التي تختتم البرنامج، فيديرها دانيال لوكمبت، ويشارك فيها السياسي الجزائري الدكتور سعيد سعدي، زعيم حزب «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» العلماني، إضافة إلى النائبة البرلمانية الألمانية، التركية الأصل، لالي أكغون، والباحث الفرنسي عبد النور بيدار، أستاذ الفلسفة في جامعة نيس. ومن المعروف أن الدكتور سعدي الذي خرج من معطف «الحركة الثقافية البربرية»، يعدّ أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في بلاده، وكان مرشح التيار العلماني لانتخابات الرئاسة الجزائرية عامي 1995 و2004. أما لالي أكغون، فهي فضلاً عن نضالاتها السياسية اليسارية، تُعَدُّ باحثة متخصصة في قضايا الهجرة والجاليات المسلمة في أوروبا. أما عبد النور بيدار، فهو فرنسي من أصل كاثوليكي، لكنه وُلد لأم فرنسية اعتنقت الإسلام، فنشأ «مسلماً بالوراثة»، وله مؤلفات عدة عن «الإسلام الأوروبي»، من أشهرها كتاب Self Islam الذي تناول ظاهرة وقوع الكثير من الشباب المنحدرين من أصول مسلمة في أوروبا في شراك الإسلام الراديكالي، بسبب افتقادهم لأي تأطير أو تعليم ديني سليم من المؤسسات الإسلامية الرسمية في بلدانهم.
ومن مصادفات البرمجة التي تؤكد Arte أنّها ليست مقصودة وغير ذات صلة بسهرة «مسلمون ضد الإسلاميين»، أن القناة تقدم أيضاً عصر اليوم (الساعة 18:35) ضمن برنامج التحقيقات الذي يحمل اسم «أراض بعيدة» Terres d’ailleurs شريطاً توثيقياً من إخراج أنييس فريو (52 دقيقة) بعنوان: «إسلام خارج عن المألوف»، يسلط الضوء على طائفة إسلامية مجهولة هي الـ Cham، في جنوب شرق فيتنام، تتبنى مفهوماً خاصاً جداً للإسلام، إذ تعفي نفسها من فروض الصلاة اليومية، كما أن السلالة والتوريث فيها ينتقلان من طريق الأم لا من طريق الأب!
  • ابتداءً من 21:45 على Arte






  • الإصلاحيّون الجدد V/S فقهاء الظلام

    تسلط هذه السهرة الخاصة على Arte الضوء على كوكبة بارزة من الباحثين والمفكرين المسلمين الذين يمكن تسميتهم «الإصلاحيين الجدد»، والذين يشكلون امتداداً لمنهج تنويري بدأه، في مطلع القرن الماضي، رفاعة الطهطاوي وعلماء النهضة الإصلاحيين، في مواجهة فقهاء التزمّت والظلامية.
    ومن أبرز مؤلفات المشاركين في هذه السهرة، نذكر «الإسلام والعقل» و«قاموس الحب في الإسلام» لمالك شبل، «أمراض الإسلام» لعبد الوهاب المؤدب، «لم يسبق لنا أبداً أن قرأنا القرآن» ليوسف الصدّيق، «المفكرون المسلمون الجدد» لرشيد بن زين، «القرآن في منظور التحليل النفسي» لألفت يوسف، «إسلام بروح العصر» وSelf Islam لعبد النور بيدار، و«السيرة النبوية» لمحمود حسين، وهما الاسمان المستعاران اللذين يوقّع بهما الباحثان عادل رفعت وبهجت ناجي أعمالهما المشتركة.
    ميزة هؤلاء «الإصلاحيين الجدد» أنهم ـــــ وإن كانوا يشكلون امتداداً فكرياً لإصلاحيي عصر النهضة ـــــ يسلكون منهجاً معاكساً تماماً للتجارب التي عرفها الطهطاوي وأبناء جيله. علماء «جيل النهضة» ولدوا وتربوا في بيئة إسلامية، وتلقوا تعليماً دينياً تقليدياً، ثم أُتيحت لهم فرص الانتداب للدراسة في الغرب، فحاولوا تطعيم فكرهم بروح الحداثة الغربية التي احتكوا بها خلال إقامتهم في أوروبا. أما إصلاحيونا الجدد، فإن غالبيتهم نشأوا في الغرب أو يقيمون فيه منذ فترات طويلة. وسواء وُلدوا في ديار الإسلام أو الغربة، فإنهم جميعاً نشأوا في بيئة علمانية، وتلقوا تعليماً غير ديني، إذ تخصصوا في مختلف حقول العلوم الإنسانية. وهذا التخصص هو الذي قادهم إلى اكتشاف الفكر الإسلامي والاهتمام بدراسته ونقده، عبر إخضاعه لأدوات البحث العلمي الحديث، الأمر الذي يشكل فرادة ويميّز إسهاماتهم وأعمالهم الفكرية.