بيسان طي
بحثاً عن «الشجراوي» في أزقة المخيّم

المخيّم الذي نشأ فيه ناجي العلي غيره اليوم. جدران عين الحلوة التي اتسعت لرسوماته الأولى، اسودّت وصارت كالزنازين. كيف تبحث عن خطاه في مخيم يتحوّل اسمه، أحياناً، مرادفاً للرعب أو الخوف؟ كما أن التغييرات الكبيرة ـــــ البشعة والعشوائية ـــــ زادت المخيم فقراً وبؤساً، وضاعت الجدران التي رسم ناجي عليها حكاياته وذكرياته.
لم يبق شيء على حاله هناك، بيت ناجي الأول من الطوب تهدّم وارتفع مكانه منزل آخر، وشجرة الزنزلخت التي جمعته بأصدقائه لم تعد هناك، ومدرسته وجدران رسوماته ودكان جدّه... كلّها أشياء اختفت. لكن ناجي لا يزال يسكن وجدان الأهالي، يحمل بعض الشبان قلادات فيها رسم حنظلة، وتفخر نسوة مسنّات بأنّهن عرفنَه صغيراً.
في عين الحلوة، «ارتسمت» خطوات ناجي الأولى بعد النكبة، وهناك التقى أناساً كان لهم تأثير كبير في حياته. ابن قرية الشجرة المولود ـــــ كما كنفاني ـــــ عام 1936، عاش النكبة وعذابات التشرد سيراً على الأقدام من فلسطين إلى جنوب لبنان، وكانت عائلته أولى العائلات التي سكنت مخيم عين الحلوة.
البيت الأول في المخيم كان خيمة، ثم صار بيتاً من الطوب في «حي عرب الغوير» (لا في حي أبناء قريته الشجرة)، وبينه وبين بيت صديق الطفولة المناضل صلاح صلاح أمتار قليلة يزرعها ذوو صلاح بالبندورة والبصل والخس، وكان ناجي يقفز من شباك غرفته، يقطف البصل الأخضر ويلفّه بالخبز المرقوق الساخن، يأخذه من أم صلاح ليصنع منهما «أكلته» المفضلة.
وكانت بين المنزلين شجرة زنزلخت، تحت أغصانها اجتمع الصديقان، يومياً، مع أصدقاء آخرين مقرّبين. كانت اللقاءات تحصل خلال «الفرصة» أو استراحة الغداء من دروس مدرسة اتحاد الكنائس المسيحية. هناك، كان الأصدقاء يروون قصصهم عن النكبة والتشرد، والمعاناة من عناصر في الأمن اللبناني، والخيم التي تقع على رؤوس أصحابها، ويحكون عن «جِزمهم» التي تعاند وحول الشتاء. ويذكر صلاح أن «ناجي كان صاحب نكتة منذ الصغر، لم يكن يصرخ كثيراً مهما احتدّ النقاش، كان يعرف كيف يطلق النكتة المُرّة والتعليق اللاذع»، بل إنّ صلاح يستغرب كثيراً ما يُقال عن أن «ناجي العلي كان متجهّماً»، يضيف «كلما نظرت إلى صوره أراه مبتسماً».
أبو ماهر اليماني، المناضل الفلسطيني الشهير، كان له تأثير كبير في حياة تلامذته من المخيم. لقّنهم قواعد العلوم واللغة، وعلّمهم قبل ذلك كله أصول الانتماء إلى الأمة العربية. هكذا نفهم رسم ناجي الشهير، حين يقترب أحدهم ليسأل الآخر:«أنت مسيحي أو مسلم، روم ولاّ سنّي، شيعي ولاّ ماروني...»، فيجيبه بكل بساطة: «أنا عربي يا جحش».
القدرة على السخرية من المرارة ربما كانت الدليل الأول على موهبة ناجي العلي وتوجهه، وهي صفة تشارك فيها مع غسان كنفاني. يقول صلاح: «أشعر أن أسباب الصداقة بينهما كثيرة، فهما يتشاركان صفتين: إنهما صاحبا نقد ساخر لاذع، وكانا أيضاً رجلين مرحين يحبان إطلاق النكات، كما أنهما مميّزان وصاحبا موهبتين متكاملتين».
ويذكر صلاح أن ناجي «الشجراوي» ـــــ كما كان يُعرف بين أصدقائه، نسبة إلى قريته الشجرة ـــــ كان طيّباً جداً، وتميّز بكرمه ونقائه، ولا يذكر أصدقاؤه متى تنبّه ناجي إلى موهبة الرسم. «كان يرسم على الأوراق والجدران وكل ما يقع بين يديه، لكننا لم ندرك أهمية موهبته، كنا صغاراً ونعدّ الرسم خربشة». صلاح صلاح رفيق الطفولة والنضال، ما زال يذكر جيداً الرسم الكاريكاتوري الأول لناجي: يومها رَسمَ خيمة هي قصص الشلة والسنوات الأولى في عين الحلوة.