خليل صويلح
هل اطلع القارئ العربي على قصص أنطون تشيخوف حقاً؟ هذا ما ينفيه خليل الرز في ترجمته قصصاً مجهولة لصاحب «بستان الكرز» مؤكداً أنّ القارئ العربي لم يحصل إلا على شذرات من تشيخوف الحقيقي.
في«أنطون تشيخوف: قصص مختارة» (منشورات «الهيئة العامة للكتاب» ــــ دمشق)، سيكتشف القارئ العربي تشيخوف آخر، أقل سخرية وأكثر تراجيدية في وصف مصائر أبطاله. إذ تنحو أعماله الأخيرة إلى رصد تفاصيل حياتية لشخوص من شرائح مختلفة. هنا، سنجد «أبطالاً متنورين، قلقين، يعانون حياة لا تليق بهم وعجزاً أمام واقع متعثّر». قصص لا تكتفي بحكاية فرد مثلما كانت قصصه الأولى، بل تتوغّل في بناء علاقات متشابكة بين خنادق متضادة بما يشبه المبارزة بين خصمين، الأمر الذي يجعلها أشبه بلوحة بانورامية مشحونة بإيقاعات مختلفة.
وهو ما يشير إليه الناقد ليف شيستوف: «تشيخوف في أعماله الأولى هو الأقل شبهاً من تشيخوف الذي اعتدناه في أعوامه الأخيرة، فتشيخوف الشاب مرح لامبالٍ وأشبه بطائر يرفرف بجناحيه...لا وجود الآن لتشيخوف المرح، ثمة هنا إنسان عابس متجهم يخيف بكلماته حتى أكثر الناس المجرّبين والمحنّكين».
هذه الانعطافة في قصص تشيخوف جاءت محصلة لقراءاته أعمال الآخرين، وخصوصاً «دون كيخوته» لثرفانتس، إضافة إلى أعمال مجايليه من الكتاب الروس أمثال تورغنيف ودوستويفسكي وتولستوي وغوغول. وكان لا بد إذاً من أن يجوس عوالم جديدة ويشرّح شخصياته على نحو آخر عبر اشتباكها بمسالك حياتية جديدة، تكشف عمق أوهامهم.
هناك سبب آخر لهذا التحوّل. إذ اكتشف تشيخوف أنّه مريض بالسل، وهو ما قاده إلى بعض التجهم في كتاباته الأخيرة، من دون أن نهمل صدى رحلته الشهيرة إلى جزيرة سخالين في سيبيريا واكتشافه صعوبة حياة المساجين. هذه الزيارة «جعلتني أبلغ سن الرشد، أو أنني جننت ـــــ الشيطان أعلم بي».
محاولاته كتابة الرواية باءت بالفشل واقتنع بأنّه «لم يتقن كتابة الرواية إلا النبلاء». هكذا تخلّى عن إتمام روايته «قصص من حياة أصدقائي» والتفت إلى عالم تراجيدي يضاهي الواقع في قسوته ومصائر أبطاله. وكان توماس مان قد وصف عمل تشيخوف بقوله «في إبداعه كله رفضٌ للضخامة المحلية، لكنه مع ذلك يحيط بروسيا التي لا حدود لها». قصص مختارة التي صدرت في مجلدين تضم أربعين قصة تضيء عوالم جديدة في سرد تشيخوف (1860ـــــ1904) وفرصة للاطلاع على أدب هذا الكاتب العظيم و(الطبيب السيئ؟). إذ لطالما شغل في تشريح دواخل شخصياته ووضعها في مهب العاصفة.
في لحظاته الأخيرة قبل الموت، هتف على طريقة أبطاله «إنني أموت!» ثم تناول كأس الشمبانيا. التفت إلى زوجته، نجمة مسرح موسكو الفني أولغا ليونار دوفنا كنيبر، ابتسم لها ابتسامة وصفتها فيما بعد بالمدهشة، ثم نطق كلماته الأخيرة: «منذ زمن بعيد لم أشرب الشمبانيا». شرب الكأس ثم استلقى بهدوء وبطء شديدين على جنبه الأيسر