محمد خير
حين تأسّس التلفزيون العربي الأول على ضفاف النيل، لم يخطر في البال أنّ الشاشة الصغيرة ستصبح عنصراً فاعلاً في الإنتاج السينمائي، وأن الفنّ السابع في مصر سيجد نفسه يوماً تحت رحمة الفضائيات الخليجية التي ستنتج قريباً ما يقارب 60 فيلماً كل عام...

منذ اللحظة الأولى، لم يبدُ أنّ هناك شقيقين أشدّ عداوة لبعضهما أكثر من التلفزيون والسينما: منذ تأسس التلفزيون العربي الأول على ضفاف النيل عام 1960، احتدمت مشاعر الرفض والاستكبار والتنافس بين أهل الشاشة الصغيرة من جهة، ونجوم الشاشة الفضية الكبيرة من جهة أخرى. وعلى رغم تطور الدراما التلفزيونية الذي بلغ ذروته منتصف ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن السينما ظلت أكثر سحراً. ولم يغير من ذلك أنّ أجور نجوم التلفزيون ارتفعت حتى أصبحت الملايين تنهمر عليهم بلا حساب. إذ ظل الجميع يجد التلفزيون «مقبرة» النجوم، والمسلسلات المتزايدة الطول بمثابة تكريم للنجوم الكبار الذين لم يعد يطلبهم الجمهور السينمائي الشرس، ونشأت حيل دفاعية لدى أبطال التلفاز من نوعية أنهم «يفضلون الوصول إلى بيوت المشاهدين» بل إنهم عادة ما يصبحون «من أفراد الأسرة». تبريرات زادها قوة ومنطقية ذلك النمو الهائل في الجسم الفضائي التلفزيوني العربي الذي وفر كمّاً لانهائياً من «فرص العمل» للممثلين جديدهم وقديمهم. مثلاً: في مصر يشهد شهر رمضان وحده عرض أكثر من 50 مسلسلاً، يضم كل واحد عشرات الممثلين. بينما تقتصر السينما _مهما اتسعت رقعة إنتاجها_ على حفنة محدودة من النجوم وبعض الممثلين المساعدين. لكنّ ذلك التضخم في الجسم التلفزيوني العربي أدى إلى ما هو أكثر من توفير فرص العمل، إذ سبّب انقلاباً في كل ما حكم علاقة التلفزيون بالسينما خلال تاريخهما المشترك.
منذ امتدّت ساعات إرساله لتغطية معظم اليوم، استعان التلفزيون بأفلام السينما لتزجية وقت مشاهديه، لماذا يرتدي المرء ملابسه ويغادر منزله ويدفع نقوداً للذهاب إلى حيث تجلس الأميرة السينمائية «متبغددة»، ما دام التلفزيون يأتي بها أسيرةً إلى منزل المتفرج؟ هكذا، ازدادت استعانة التلفزيون ثم الفضائيات التلفزيونية بأفلام السينما إلى أن أنشئت فضائيات متخصصة بعرض السينما فقط. لكنّ كل هذا لم يشبع التلفزيون، هذا الوحش الجائع راحت معدته تكبر وجوفه يزداد اتساعاً. ومع ازدياد المنافسة، بات يحتاج إلى أفلام أكثر، فكان لا بد إذن لرؤوس الأموال الضخمة التي تضخ ماكينات الشاشة الصغيرة أن تتدخل بنفسها، أن تمد أذرعها إلى سوق السينما وأن تنتج أفلامها الخاصة... سينماها الخاصة.
تميّزت صناعة السينما المصرية طوال تاريخها بعنصر الاستقلالية، إنتاج الأفلام برؤوس أموال مصرية كان خطوة أسّسها طلعت حرب مؤسس الاقتصاد المصري الحديث. وعندما أمّم عبد الناصر صناعة السينما، اعتبر الجميع أن تلك كانت الضربة الأولى لصناعة السينما المصرية، على رغم أن 159 فيلماً أنتجها القطاع العام في تاريخه ضمت عدداً من روائع السينما، مثل «بداية ونهاية»، «القاهرة 30»، «زوجتي والكلب» و«المومياء» وغيرها، حتى توقفت الدولة المصرية عن إنتاج الأفلام عام 1972، كان الخلاف دائماً يدور حول العلاقة بين القطاعين الخاص والعام في مجال الإنتاج السينمائي. ولم يخطر في بال أحد أن التلفزيون ـــــ الكيان الذي يجمع بين الفنون والميديا والبيزنس والسياسة ـــــ سيصبح عنصراً فاعلاً في الإنتاج السينمائي، وهذا الأمر لا يقتصر معناه ونتائجه على تغير متوقع في طبيعة الإنتاج السينمائي التلفزيوني، بل إن معظم الفضائيات (كل الفضائيات؟) التي دخلت أو تنوي دخول مجال الإنتاج السينمائي هي غير مصرية، تتزعمها «روتانا»، و«إي آر تي» وبينهما مشروعات مستقبلية لفضائيات أخرى منها «إم بي سي» وتلفزيون «دبي». معظم الفضائيات دخلت سوق الصناعة السينمائية المصرية من الأبواب الخلفية، موّلت بعضاً من الأفلام من طريق شركاء مصريين. في الواقع كانت تنتج الأفلام «من الباطن» حيث اكتفى الشركاء المصريون بوضع أسمائهم على الأفلام لاعتبارات قانونية وتوزيعية، وذلك قبل أن تكسر «روتانا» ذلك الحاجز وتنتج مباشرة فيلم محمد هنيدي الجديد المعروض حالياً «عندليب الدقي»، وهو الفيلم الأول ضمن أفلام ثلاثة أبرمت بموجبها «روتانا» عقداً مع النجم المصري الشهير، فيما لا تزال الشركة السعودية تشارك شركة «الباتروس» المصرية إنتاج أفلامها وتشارك شركة ثالثة ـــــ للتوزيع هذه المرة ـــــ وهي «الأخوة المتحدون». في العام المقبل، سيتخطى نصيب «روتانا» وحدها 20 فيلماً بين إنتاج وتوزيع، ما يعني أنّ الإنتاج السينمائي المصري الذي سيصل إلى 60 فيلماً سنوياً في القريب العاجل (ما يساوي الإنتاج السنوي في حقبة الخمسينيات) هو في حقيقة الأمر ابن الطفرة التلفزيونية الفضائية. هذه الانتعاشة الإنتاجية السينمائية تعبّر عن اتساع السوق التلفزيونية لا السينمائية. إلا أنّ ما ينجم عنها من اتجاه المزيد من المستثمرين إلى صناعة السينما ــــ قرّرت وزارة الثقافة المصرية العودة إلى إنتاج الأفلام ــــ سيؤدي في النهاية إلى إعادة العجلة الإنتاجية السينمائية إلى الدوران، وهي مطمئنة إلى وجود مشترين جاهزين في الفضائيات. إذ أصبحت الأفلام تعرض تلفزيونياً بعد أشهر قليلة من سحبها من الصالات، وهي التي كانت تنتظر في الماضي سنوات طويلة قبل أن يراها جمهور الشاشة الصغيرة.