بشير مفتي
في آخر حوار أُجري مع رشيد بوجدرة بعد عودته من الولايات المتحدة حيث حاضر في «تأثير فولكنر على بعض الروايات المغاربية»، أطلق صاحب «ألف عام وعام من الحنين» تصريحات ضدّ كتّاب جزائريين كبار من جيله تقريباً. واتّهم آسيا جبّار بأنّها منحازة إلى فرنسا في كتاباتها، وبأنّها دخلت الأكاديمية الفرنسية بسبب هذه الميول المعادية. فيما انتقد نجيب محفوظ، ورآه كاتباً كلاسيكياً جداً، لم يقدّم أي جديد في الرواية العربية، وأنّه حصل على جائزة نوبل لأسباب سياسية. كما انتقد الجائزة التي وصفها بالـ«سياسية»، والدليل هو عدد الكتّاب الإسرائيليين الذين حصلوا عليها. وأضاف أنّه لو رُشح لها، لرفضها.
إلا أنّه لا أحد في الساحة الأدبية الجزائرية استغرب هذه الانتقادات، لكون بوجدرة اعتاد أن يطلق أحياناً رشاشاته في وجه الجميع... حتى على كتّاب الجيل الجديد الذين يمدحهم تارةً ويشتمهم طوراً. وكانت آخر هجماته الصاخبة على مواطنه وزميله الطاهر وطار الذي اتّهمه بالعقم وعدم القدرة على الاستمرار في الكتابة، ما دفع وطّار إلى تهديده برفع دعوى قضائية بتهمة القدح والذم، إذا استمر في نقده في الصحافة المحلية. وقبل ذلك، وجّه بوجدرة انتقادات عنيفة للأب المؤسس، إذا جاز التعبير، أي كاتب ياسين وصرّح بأنّ صاحب «نجمة» كان كاتباً كبيراً، لكنه لم يكن مثقّفاً... ولم يحصل على مستوى تعليمي رفيع. وحتّى الأمير عبد القادر لم يسلم من نقد بوجدرة الذي اتهم الشاعر الصوفي وبطل الثورة الجزائريّة بالخيانة، مضيفاً أنّه كان عضواً ناشطاً في الحركة الماسونيّة!
وفي الحوار الأخير الذي أدلى به إلى إحدى الصحف المحليّة، انتقد بوجدرة دور النشر الفرنسية، مشيراً إلى أنها لا تنشر إلا الأعمال التي تناسبها، مضيفاً أنّ دار «غراسيه» مثلاً (ناشره الأخير)، طلبت منه أن يحذف بعض الفقرات التي تحدّث فيها عن بشاعة الاستعمار الفرنسي إبان الفترة الاستعمارية. إلا أنّه رفض ونشر روايته الأخيرة «فندق سان جورج» لأوّل مرة في الجزائر عن منشورات «دار الغرب» في وهران. ويقال إنّه تقاضى مبلغاً خيالياً مقابل بيع حقوقه لهذا الناشر الجزائري الغنيّ. وفي الرواية المشار إليها، يعود بوجدرة إلى موضوعه الأول الذي عالجه في نصوص عدة مثل «التفكك»، أي الثورة الجزائرية... وذلك من خلال تجارب شخصيات شيوعية، وما تعرضت له من تصفية جسدية على يد بعض الوطنيين من جبهة التحرير الوطني.
يشكّل بوجدرة اليوم ظاهرة متعددة الوجوه: يكتب بالفرنسية، لكنّه يدافع بشراسة عن العربية. يبدو حالياً أكبر مبدع جزائري... لكنّ مساره تخلّله الكثير من المآزق. إذ اتُهم بكتابة تتناص ـــــ بشكل يقترب من التقليد ــــ مع روايات كلود سيمون، حائز نوبل وأحد أصعب أقطاب الرواية الجديدة في فرنسا. بل هناك مَن اتهم روايته «معركة الزقاق» بـ«سرقة» غير مشبوهة لأحد أعمال سيمون. كما أنّ هناك مَن قدّم دراسة مقارنة بين رواية «ألف عام وعام من الحنين» و«مئة عام من العزلة»، كاشفاً عن مطابقات غـــــــريبة بين العملين. أضف إلى ذلك أنّ بوجدرة عاش مرحلةً عصيبةً عندما نشر الكاتب الراحل بختي بن عودة مقالة كــــــــشف فيه عن سرقته لنص الشاعــــــر المغربي محمد بنيس «بيان الكتابة». وأثار المقال جدلاً كبيراً بين المثقفين الجزائــــــــريين. لكنّ بوجدرة خرج من تلك المعــــــــارك سالماً وأكثر قوة وبروزاًَ.
عرف بوجدرة في الفترة الأخيرة، نوعاً من الأزمة، ولعلّه شعر بأن القطار بدأ يفوته بعد بروز أقلام جزائرية جديدة تكتب بالفرنسية، وتُلقى عليها الأضواء، مثل بوعلام صنصال وياسمينة خضرا ونينا بوراوي... ألهذا السبب عاد إلى الجزائر، وبدأ يشاغب كعادته؟ اليوم، يسأل منتقدو هذا الكاتب المهمّ في مسار الأدب الجزائري المعاصر: ما هو الجديد اللافت للنظر الذي قدّمه، في السنوات الأخيرة، على مستوى الرواية؟ ألم يعترف بنفسه أنه وصل إلى طريق مسدود، وأنه يكتب فقط كي يردّ عن نفسه شبح الانتحار؟