حسين بن حمزة
البلدة السوريّة الواقعة بين حمص وطرطوس، تستضيف هذه الأيام مجموعة نحاتين، جاؤوا يشاركون في «ملتقى النحت الدولي» الذي أطلقه الممثل المعروف فارس الحلو. ١٣ فناناً من مختلف أنحاء العالم، لفّوا رؤوسهم وكمّوا أفواههم، كأنّهم عمال في ورشة كبيرة. «الأخبار» زارتهم، وعادت بملاحظات وانطباعات

أطرف ما في «ملتقى النحت الدولي» الذي تحتضنه بلدة مشتى الحلو السورية أنّ صاحب فكرة الملتقى ليس نحاتاً، ولا حتّى فناناً تشكيلياً. كل ما في الأمر أنّ الممثل السوري المميز فارس الحلو سئم الدراما التلفزيونية التي لم تعد تقترح موضوعات وتحديات أدائية أمام الممثل. ورغم أنه نال أخيراً جائزة أفضل ممثل في مهرجان فالنسيا، فإن التمثيل، بالنسبة إليه، بات أشبه بتكرار مهني آلي، ولم يعد العمل ممتعاً كما كان قبلاً.
راح فارس الحلو يحلم بمدارات أخرى وتحقق حلمه العام الماضي، إذ جمع 11 نحاتاً سورياً في حضن الطبيعة السوريّة ليطلق مشروعه. وها هو «الملتقى» يستقبل سبعة نحاتين أجانب وثمانية سوريين، في دورته الثانية التي تقام تحت الشعار نفسه «جمال الحب».
في منتصف الطريق بين حمص وطرطوس تقع مشتى الحلو. الذاهب إليها يجد في استقباله منحوتات الدورة الأولى منصوبة في ساحات البلدة وزواياها. لعل مشهد المنحوتات متجاورة مع تضاريس البلدة هو أحد رهانات الملتقى الذي يطمح إلى نقل النحت من ورشات النحاتين الخاصة... إلى الهواء الطلق.
حين زرنا هذه الورشة المتعددة الآفاق، كانت الأعمال في طور الإنجاز، والنحاتون في سبيلهم إلى استخراج تماثيلهم من جوف الكتل الرخامية الضخمة. العمل النحتي، هنا، يُنجز أمام المارة والفضوليين، فإذا بالملتقى يكسر الهالة التي تحيط عادةً بالعمليّة الإبداعيّة. مزاج الفنان نفسه معرّض مثل عمله لعيون الآخرين. إنهم يرون، مثله وفي اللحظة نفسها، كيف يستخرج تمثاله من جوف الرخام. الرخام أُحضر من كرارا الإيطالية، وهي الموطن الأهم والأشهر للرخام في العالم. من هناك كان يجلب مايكل أنجلو الصخور التي صنع منها أعماله الخالدةنقترب فتصلنا أصوات المقادح الكهربائية. ثم يلفنا الغبار الأبيض المتصاعد من الكتل الرخامية التي توزع عليها النحاتون الثلاثة عشر، وقد لفّوا رؤوسهم وكمّوا أفواههم وغطوا أعينهم بالنظارات الواقية. إنهم أشبه بعمال في ورشة كبيرة. كأنهم اتفقوا مع رب عمل خفي على الانتهاء من العمل الموكل إليهم، وفق عقد سري. منظرهم منكبين على صخورهم الكبيرة، يذكّر بمعسكر أشغال شاقة. الفرق أنهم يعملون هنا بملء إرادتهم (النحتية)، وبكامل عتادهم (التخييلي).
في مشغله، يتحاور النحات وحده مع عمله. أما هنا فهو مضطر إلى التحاور مع زملاء آخرين، يعملون في جواره. الواقع أن الملتقى يفتح حواراً إضافياً. فالمنحوتات نفسها تتبادل حواراً غير مرئي في رحلتها التي تبدأ بإيقاظ الكائنات المقيمة داخل الكتل الرخامية المغلقة والمبهمة، وتنتهي بإزالة الزوائد عنها كي تنتصب بجمالها وحده.
النحات محمد بعجانو الذي يعمل على منحوتة لمريم العذراء يقول: «في مشغله يفكر النحات بأحجام محددة. إذا أُتيحت له الفرصة لإنجاز عمل كبير... فالأرجح أن يصطدم بمشكلة تسويق هذا العمل». بعجانو كان هنا في الدورة التأسيسيّة، سبق له أن شارك في أكثر من سمبوزيوم: عاليه ودبي والبحرين وقرطبة وغيرها. وهو لا يخفي أنه يكون أكثر حرية حين يعمل في مشغله الخاص: «لا أكون مقيداً بوقت محدد لإنهاء منحوتتي. أستطيع أن أتركها فترة وأعود إليها لاحقاً. أما في السمبوزيوم، فالنحات محكوم بالوقت، وهذا يعني أن عليه امتلاك القدرة على ابتكار أفكار ومقترحات وتغييرها بسرعة فائقةفي الأحوال العادية يقيم النحات علاقات مزاجيّة وبطيئة مع عمله. هذا الترف المزاجي غير ممكن هنا. المشاركون في السمبوزيوم يعملون تبعاً لإيقاع يومي، وبدوام إلزامي متواصل. وعلى النحات أن يتصرف بسرعة وببراعة. هل إنجاز العمل ضمن مهلة محددة، يجبر الفنان على التضحية بنوعية العمل، وجودة الشكل النهائي؟ وهل يتم القفز فوق بعض مقترحات بسبب ضيق الوقت؟ النحات أكثم عبد الحميد يرى أن فكرة السمبوزيوم نفسها تدفع المشاركين إلى نوع من الارتجال، يتضمن تبنّي مقترحات معينة واستبعاد غيرها. النحات مضطر هنا إلى اتخاذ قرارات نحتية عاجلة، وهذا يعود إلى مهارة كل نحات على حدة. لتخفيف حدة عامل الوقت، يقترح بعجانو ألا يكون العمل مشروطاً بإنهاء المنحوتة، مشيراً إلى أن منظمي سمبوزيوم دبي وقرطبة لا يشترطون ذلك على المدعوين.
ويشارك عبد الحميد زميله بعجانو الرأي بخصوص العمل في الهواء الطلق: «الناس تعودوا على مشاهدة فن النحت من خلال المعارض فقط. لم يسبق لهم أن رأوا القطع الصخرية وهي تتطور بالتدريج لتأخذ شكلها النهائي». وهذا رأي النحات الإيطالي رينو جيانيني أيضاً: «روحية أي سمبوزيوم تفترض حضوراً جماعياً للنحاتين. أثناء العمل أتحدث مع زملائي المشاركين عن منحوتاتنا، وهذا ليس أمراً عادياً بالطبع. لكني لا أجد غرابة في ذلك، فـأنا حين أعمل في الاستوديو الخاص بي غالباً ما أتحدث إلى الآخرين عن العمل الذي أكون بصدد إنجازه».
المرأة موجودة في أعمال المشاركين الذكور. وهذا طبيعي، لكن اللافت أن النحاتات أيضاً ينحتن نساء. الألمانية سوزان باوكر منكبّة على تمثال «هيرا» إلهة الزواج والحب. والنحاتة السورية سماح عدوان تقترب من إنهاء «امرأة أمام الريح».
بعد انفضاض الملتقى، تتابع المنحوتات حياتها بعيداً عن أصحابها. لقد خرجت من بين أيديهم ومخيلاتهم. النحات معتاد على فكرة الانفصال عن لوحاته. النحات الأسترالي فرانكو داغا يلفت إلى أن المشاركين في هذا النوع من المحترفات، يعرفون مسبقاً أن عليهم ألا يتعلقوا بأعمالهم. وهذا ما يراه النحات الفرنسي نيكولا فيري، رغم أنها مشاركته الأولى خارج بلده.