محمد خير
«التعذيب» يتجاوز إنزال الألم بالأفراد... إلى انتهاك إنسانيتهم. وآثاره البشعة لا تقتصر على الضحيّة... بل تتجاوزها إلى الجلاد! كتاب «ما وراء التعذيب» الذي يحمل توقيع طبيبة وفنانة تشكيلية مصريّة، هو بلا شك من أهم المراجع العلمية التي احتوتها المكتبة العربية منذ سنوات طويلة. نظرة مقربة إلى تلك الآفة الفظيعة التي ما زالت مستشرية في ثلث دول العالم، بما فيها بعض البلدان النامية

هل يمكن أن يتحول أي إنسان عادي إلى جلاد، أي إلى شخص يقوم بتعذيب الآخرين؟ هل يمكن أن «يحبّ» ضحية التعذيب جلاده؟ ولماذا يتغاضى الإنسان عن تعذيب يمارس ضد إنسان آخر، حتى لو رآه بأم العين؟ وما هي أنواع التعذيب؟ وهل يهدف التعذيب دائماً إلى انتزاع اعترافات معيّنة؟
بسمة عبد العزيز تجيب عن هذه الأسئلة في كتابها «ما وراء التعذيب» الصادر عن «دار ميريت» القاهرية. والمؤلفة هي طبيبة في مركز «النديم» لعلاج ضحايا التعذيب وتأهيلهم... لكنّها أيضاً رسّامة ونحاتة وعضو نقابة الفنانين التشكيليين في مصر.
لم يختف التعذيب مع تقدّم الفكر الإنساني وتطور مفاهيم حقوق الإنسان، وما زال هذا الفعل البشع يُمارس بضراوة في ثلث بلدان العالم على الأقلّ، ويطال الفئات الفقيرة والمهمّشة. حتى في بعض البلدان الديموقراطية العريقة، يُمارس التعذيب وفقاً لقاعدة: «اضرب «العبد» أولاً ثم اسأله عن اسمه». أما في العالم الثالث، فالتعذيب هو منهاج حياة وأسلوب حكم، وتبريراته موحدة تدور حول «الحفاظ على مصالح الدولة العليا»، و«حماية أمن البلاد» و«دعم الاستقرار».
وعندما يقرّر النظام السياسي اضطهاد معارضيه، فإنه يمارس عدداً محدوداً ومعروفاً من الخطوات، بدءاً من إضفاء الشرعية على عملية التعذيب بحجّة حماية الوطن، ثم اعتبار الجلادين قوة شرعية موجّهة لفرض تلك الحماية، وأخيراً... لا يبقى سوى اختيار الضحايا!
وفي الوقت الذي مارست فيه بعض الأنظمة الشمولية التعذيب بحجّة القضاء على أعداء الشعب، وكذلك بعض الأنظمة الديموقراطية بدعوى محاربة الإرهاب، فإن المشكلة الأكبر هي تلك الأنظمة التي تفتقر إلى الإيديولوجيا أو المبادئ، وتتكوّن سلطاتها من مجموعة من أصحاب المصالح. عندئذ، يطال التعذيب الجميع يساريين أو يمينيين، ليبراليين وحقوقيين ومدافعين عن الأقليات. ومع الوقت، تنسى الأنظمة الغرض من التعذيب ليصبح هدفاً بحد ذاته، وخصوصاً أنّ من المهم لذلك النوع من الأنظمة أن يقوم بتعذيب بعض قادة المجتمع ومثقفيه من دون قتلهم، حتى يمكن إعادتهم إلى المجتمع في صورة محطّمة ومنهارة كرسالة إلى الآخرين.
تفرد المؤلفة فصلاً كاملاً للحديث عن كيفية اختيـــــــار القائمين بالتعذيب. وتوضــــــح أن أغلب الدراسات والإحصــــــــاءات والآراء تشير بالإيجاب إلى فرضية أن «أياً منّا يمكـــــــــن أن يصبح مشاركاً في عملية تعذيب إنسان آخر».
ورغم أنّ الفرضية غير مطلقة، إلا أنّ السواد الأعظم من الأفراد يمكن اقتيادهم لتعذيب آخرين تحت ضغوط متفاوتة ودرجات من الإجبار والتهديد تختلف وفقاً لاختلاف الظروف المعيشية والخلفيات الثقافية لهؤلاء. ثم تبدأ محاولات مدروسة للترغيب في ممارسة فعل التعذيب.
وتوضح المؤلفة سبب اختيار الجلاّدين من الفئات الدنيا، وأفقر شرائح المجتمع. فهؤلاء أنفسهم يعانون من مهانة وتهديد مستمر، ويتحكّم رؤساؤهم في مصيرهم. وبالتالي يسهل تحويل مشاعرهم الغاضبة والحاقدة في اتجاه ضحيّة التعذيب. وفي الوقت الذي يحصل الفرد على نصيب أكبر من التعذيب كلما انحدر في السلم الاجتماعي، فإن بعض الحالات يحدث فيها العكس، إذ يفرغ الجلاد بعضاً من حقده الطبقي ضدّ من يفوقونه في المكانة الاجتماعية.
إلا أنّ القائمين بالتعذيب هم أنفسهم عرضة للإصابة بأمراض نفسية خطيرة، لا تنبع أسبابها فقط من عملية التعذيب نفسها، بل من الضغوط الشديدة التي تمارسها السلطات عليهم من أجل ضمان ولائهم. والأخطر، حالة الغدر التي يشعرون بها عندما يختفي النظام القائم، ويتبدل المسؤولون. هنا، يشعر القائم بالتعذيب بأن الوطن ينكر ما قام به من «خدمات»، ويتفاعل ذلك مع حالة الإنكار التي مارسها طويلاً ليستطيع القيام بالتعذيب، ثم يتطور ذلك إلى إنكار جديد للجرم نفسه: «لم أفعل شيئاً» أو اعتبار أنّ الضحايا يستحقّون ما نالوه.
وهذه الحيلة الدفاعية نفسها، يمارسها الجمهور العادي غالباً تجاه ضحايا التعذيب. وتشير المؤلفة إلى أنّ الحيلة الأخرى هي أن يقوم الجلاد بالإمعان في إذلال الضحية وانتهاكها، وإبعادها قدر الإمكان عن الصورة البشرية... حتى يبدو الضحايا كأنهم ليسوا بشراً، بل أقرب إلى حيوانات تستحق الضرب والعنف، كيما تعود إلى القطيع. إلا أنّ الحيلة الأغرب والأكثر انتشاراً بين القائمين بالتعذيب هي استخدام لغة خاصة لوصف عمليات التعذيب أو أدواته التي يطلق عليها أسماء من نوع «العروسة» أو «الصناعي» أو غيرها من الأسماء. وأحياناً يوصف المعذِّب المحترف مثلاً بـ«الدكتور». وكلّ هذه التسميات هي مجرد وسائل للتكيّف النفسي مع ارتكاب جريمة التعذيب البشعة... لكنّها لا تفلح دائماً في إصابة القائم بالتعذيب بما يسمّى «اضطراب كرب ما بعد الصدمة». وقليل من هؤلاء يلجأون إلى العلاج النفسي، ما يسمح لتلك الاضطرابات بالتطوّر، ويصبح فعل التعذيب جزءاً من السلوك العادي، ويمكن تصور تأثير ذلك على أسرة الجلاد مثلاً...
إن التعذيب ليس مجرد إحداث ألم، بل هو انتهاك واقتحام وتملّك، وتغلغل في جسد الضحية وروحها عنوةً، من دون سؤال، كما تقول المؤلفة التي تستعين بمقولة جورج أورويل في رائعته «1984»: «سوف تصبح أجوف وسنعتصرك حتى الفراغ، وبعد ذلك ينبغي أن نملأك بذواتنا».