خليل صويلح
يرفض وليد إخلاصي أن يكتب مذكراته. ويبرر ذلك بالقول إنّ رواياته تكتنف شيئاً من ذكرياته. لكنّه في كتابه «حلب بورتريه بألوان معتّقة» (دار نون ــــ حلب) يميط اللثام عن بعض ذكرياته الشخصية، من دون أن يعزلها عن فضاء المدينة القديمة.
وحلب، في نهاية المطاف، مرآة ذاتية لهذا الروائي الذي طالما ارتبط اسمه بقلعتها وأسواقها وشوارعها ومقاهيها. وسيكتشف القارئ أسراراً جديدة من حياة صاحب «بيت المتعة»، خصوصاً فيما يتعلق بمطلع شبابه وحيرته في الانتماء. الشاب الذي تفتحت مداركه في مدرسة التجهيز على أبواب الاستقلال، وجد نفسه فجأة ينتسب إلى «جمعية الإخوان المسلمين» ويحضر اجتماعاً سرّياً انتهى بخيبة مريرة، فقرر عدم حضور الاجتماع المقبل للجمعية!
وليد إخلاصي الذي ينحدر من أب أزهري، وجد فارقاً شاسعاً بين المبادئ التنويرية لوالده الذي كان يتلو الآيات القرآنية ويميل طرباً إلى صوت ماري جبران... وبين صرامة «جمعية الإخوان المسلمين». بعدها استقطبه الشيوعيون لكنّه وقع في مطب مشابه... وهكذا إلى أن هجر الأحزاب إلى الأبد منصرفاً إلى قراءة الكتب بحثاً عن إجابات لتساؤلات لا نهاية لها.
في «حلب بورتريهات معتّقة»، يتجوّل إخلاصي في ذاكرة المدينة وشخصياتها المؤثرة: «دار الكتب الوطنية» التي تعرّف بين جنباتها على كتابات جبران خليل جبران وجان جاك روسو وطه حسين وأبي حيان التوحيدي، رافضاً قراءة «قصص الفتيان» كما كان ينصحه أمين المكتبة. وفي أروقة الجامع الأموي، سيتعرف إلى الشيخ بكري الكردي صاحب الصوت العذب، وأحد قامات حلب الموسيقية إلى جانب عمر البطش وصباح فخري.
هكذا يحفر صاحب «سمعت صوتاً هاتفاً» في تضاريس المدينة، ليكشف كنوزها وعراقتها وحيويتها المتجددة، مذ كان طفلاً يراقب صخب التظاهرات ضد المستعمر الفرنسي إلى بهجة الاستقلال وزمن الانقلابات العسكرية المتعاقبة ونكبة فلسطين. يرسم بإتقان خريطة مدينة، لطالما كانت ملجأ للعابرين وطريقاً للقوافل. فمدينة سيف الدولة الحمداني كانت بلاطاً للعلماء والشعراء، ولا تزال حجارة القلعة وأسوارها تردد صدى قصائد المتنبي وأبي فراس الحمداني من جهة، ومأساة السهروردي والنسيمي ونفي عبد الرحمن الكواكبي من جهة ثانية. وحين يتذكر إخلاصي حي المنصورية الذي نشأ فيه، سيستعير أطياف ذلك الحي في روايته «زهرة الصندل» ويعرّج على الأحداث الدامية التي شهدتها المدينة في بداية الثمانينيات.
ولعل اللافت في هذه النصوص أنّ وليد إخلاصي يختبئ وراء تاريخ المدينة كشاهد عصر، لكنّه لا يتوغل عميقاً في سيرته الشخصية، فعدا ذكريات الطفولة والصبا، ستتلاشى سيرته ليحلّ مكانها أشتات ذكريات عن شخصيات صنعت ذاكرة المدينة الحديثة: العلّامة خير الدين الأسدي الذي مات وحيداً... ولؤي كيالي الذي أنهى حياته منتحراً... وفاتح المدرس، والموسيقار عمر البطش، والشاعر علي الناصر الذي وُجد مقتولاً في مكتبه. كأن مدينة حلب منذورة للموت والدمار كما ساعة «باب الفرج» التي توقفت عقاربها عن الدوران زمناً طويلاً.