حسين بن حمزة
جملة متينة وثراء معجمي واستعارات مستجدّة. هذه هي أكثر الصفات التي يلمسها قارئ مجموعة «نبيذها أزرق ويؤنس الزجاج» (دار النهضة) للشاعرة اللبنانية المقيمة في الولايات المتحدة، أمال نوار.
يستطيع القارئ أن يُشهر كتابة أمال نوار في وجه كتابات كثيرة مكتفية بعوالم شحيحة، ويوميات عادية، وشؤون مفرطة في شخصانيتها. المجموعة الثانية لنوار ليست بلا شؤون شخصية، ولكنْ ثمة أعماق ومعالم غائرة في قصائدها، وهذا ما يعطي انطباعاً فورياً بدسامتها وكثافتها، حتى إننا نجد كثافة متراصّة في الجملة الواحدة أحياناً. النتيجة أن الشاعرة تكتب قصيدة ذات طبقات عدة ومعانٍ ومقاصد شعرية كثيرة. ثمة تفكّر شعري ومكابدة، مهارات واقتراحات، في هذا النوع من الكتابة. إنها كتابة تمزج بين تلقائية الألم الذاتي، والتقنيات الأسلوبية التي تصنع لهذا الألم نبرته وتجلياته المختلفة ولعل الألم، وإن لم يتكرر بالمفردة عينها في كل مرة، هو القاسم المشترك للتجربة التي تنهض عليها معظم قصائد الكتاب. ثمة وحشة وعزلة وانتظار وندم وافتقاد. لكن أمال نوار تعمل طوال الوقت على دفن هذه المعاني تحت الكلمات والصور وفي طياتها. أما القارئ فيتلقى ضربات الوحشة والافتقاد من أحشاء القصائد، حيث الآلام مدفونة ولا يصل أنينها إلا مكتوماً.
الأرجح أن هذا الوصف يصلح لتتبع المواد والمذاقات والروائح الأولية التي تتدخل في صياغة قصائد الكتاب. وعلى القارئ أن يعثر عليها، وقد تحولت إلى شعر خالص. عندها يمكن أن يختبر ويتذوق جملة مثل: «بعيدةٌ المراكب عن ذهن المياه»، أو «يدي تزرقُّ في يديك / من دون لمس».
سعيُ أمال نوار إلى كتابة مكثفة هو إحدى خصال نبرتها. ولكن الكثافة لا تقيّدها بشروطها التقليدية الدارجة، ولا تجبرها على إنجاز قصائد قصيرة ومقتضبة. إنها تخوض مغامرة شديدة الخطورة، حين تستطرد وتسترسل بمواد مكثفة. الأرجح أن جعل القصيدة تحلّق بجناحي الكثافة والاسترسال معاً، يفاقم الجهد الشعري المبذول في كتابة القصيدة.
غالباً ما تبدأ أمال نوار قصيدتها باستهلال يفتح أمام القارئ ــــ وأمامها هي أيضاً ــــ مسلكاً وعراً لإتمام العمل. إنها تبدأ من مفتتح يعدها بممارسات شاقة ومنهكة، للوصول إلى خاتمة القصيدة. متعة الكتابة موجودة في هذه الرحلة ذات الكلفة الوجدانية والنفسية والشعرية الباهظة. ما يخفّف من وقع هذه الكلفة، هو أن الشاعرة تصنع حساسيتها ونبرتها بها. ثمة أمثلة كثيرة تشير إلى أن أمال نوار تستعذب الممارسات الشاقة في كتابتها. المدهش في الأمر أنها تنجح في جعل ما هو شاق، جزءاً من جودة القصيدة وتميّزها. هكذا نتلذذ يقراءة شاعرة «لا يهم / أمِنْ عشبٍ جسدها / أم من جليد / ما دامت مياهها صافيةٍ / وثوبها يعكس الخرير».