strong> نجوان درويش
  • ما لم تقله الجيوسي لجاك بيرك في مؤتمر جزائري


  • أثار «الملتقى الأول للأدباء العرب في المهجر» الذي عقد في الجزائر، عاصمة الثقافة العربية لعام 2007، الكثير من الضجّة والنقاش. «سؤال المهجرية» ما زال راهناً في العالم العربي، ولعله امتداد لنقاش أوسع عن الأوطان العربية المصادرة أو المحتلة...

    «الملتقى الأول للأدباء العرب في المهجر» الذي عقد أخيراً في الجزائر، بدا استكمالاً لأسئلة «المهجرية الجديدة» التي أثارتها مجموعة من الشعراء العرب المقيمين في أوروبا خلال العقدين الماضيين. استعاد هؤلاء الصلة مع أسلافهم «المهجريين» الأوائل ممن انتبهوا مبكراً إلى الهوية الأدبية العربية في «المهجر» التي راحت تعلن عن نفسها منذ أواخر القرن التاسع عشر، في الأمريكيتين، مع تشكّل نخبة ثقافية عربية من المهاجرين «الشوام». هؤلاء أسّسوا مجلات و«ملتقيات أدبية» كـ«الرابطة القلمية» في نيويورك (1920)، و«العصبة الأندلسية» في ساو باولو البرازيلية (1932)... وبعض تلك الأسماء ما زال يحتفظ بقدر من الإشعاع كجبران خليل جبران، فيما ركن بعضها الآخر إلى زوايا أنيقة ودافئة من الذاكرة كإيليا أبو ماضي، والأخوة معلوف وغيرهم، ممن مهّدوا الطريق أمام «الحداثة الشعرية العربية» في خمسينيات القرن الماضي. وبعض هؤلاء المهجريين انطووا في كتب «الأدب المهجري»، ذلك الأدب الذي قدّم يومها بشائر عافية للأدب العربي الخارج من سراديب الزمن العثماني المريض.
    أواخر الثمانينات طرح نوري الجراح، من لندن، سؤال المهجرية الجديدة على أقرانه، في مقال بعنوان «مهجرية شعرية عربية جديدة: ماذا نفعل في أوروبا؟». تجاوب مع السؤال شعراء «مهجريون جدد» ككمال أبو ديب وأمجد ناصر وشاكر لعيبي وعبد القادر الجنابي وهاشم شفيق، وأيضاً من غير «المهجريين» كمحمد بنيس وقاسم حداد وحلمي سالم ومحمد سليمان. وواصل الشاعر السوري تقليب الفكرة في سلسلة حوارات صحافية، اتّسع مداها ليشمل مفكرين كجورج طرابيشي وبرهان غليون وأحمد عباس صالح، أسهموا في النقاش والتفكير في مسألة المهجر والمنفى.
    ولعل كلمة المنفى اليوم هي الاسم الجديد لكلمة المهجر التي تلاشى استعمالها في العقود الأخيرة بعد تبلور «شخصية المنفى» وتحوله إلى ظاهرة كونية. ويبدو استحضار المهجرية، في زمن العولمة، نوعاً من البحث عن جذر حضاري، تماماً كما استأنس «أدباء المهجر» قبلاً بالتجربة الأندلسية. فالمهجرية هي الاسم التاريخي لـ«أدب المنفى» كما عرفه «الأدباء الشوام» في الأمريكيّتين. خلال العقد الماضي كثرت إعادات النظر بمفهوم «المهجرية الجديدة» وبمعناها وأبعادها، وهذا المنحى التنظيري للظاهرة وجد ضالته في الملتقى الذي عقدت دورته الأولى على الأرض الجزائرية، للمضي قدماً في مشروع فحص الهوية المهجرية، وفهمها وتحديد ملامحها. ولقاء قرابة 60 كاتباً وشاعراً وناقداً، ممن يعيشون في أوروبا وأميركا وبعض مناطق أفريقيا وآسيا (إضافة إلى الكتاب والمثقفين الجزائريين)، كان فرصة لتأمل المشهد المهجري بتياراته المختلفة. سؤال المهجرية هنا، يجرّ معه سؤال الأوطان العربية المصادرة والمحتلة التي أفرزت القسم الأكبر من حركات النزوح الثقافي في العقود الماضية.
    ولعل المهجرية العربية الأخيرة، نتاج للواقعة الكولونيالية. المهجريون الأوائل كان خضوع بلادهم للحكم العثماني أحد الدوافع والمكونات الأساسية لهجرتهم. ثم خرج العرب من الإمبراطورية إلى زمن الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. من احتلال فلسطين العام 1948... إلى احتلال العراق اليوم، تبدو الهجرات المتلاحقة مرتبطة بالراهن السياسي، ولا بد هنا من التوقف عند الزخم الهائل للهجرة العراقية التي قد تكون الأوسع رقعة بين المهجريات العربية في العالم.
    لكن الملتقى الذي نظّمه «المركز العربي للأدب الجغرافي» (ارتياد الآفاق) في أبو ظبي ولندن، بالاشتراك مع «المكتبة الـــــــوطنية الجزائرية»، كاد يذهب ضحية صراع الخارج (أدباء المنفى) والداخل (السلطة ورموزها). رأى الشاعر نوري الجراح مدير «المركز العربي للأدب الجغرافي»، أنّ الجزائر ــــ بما تحمله من رمزية في مقاومة الاستعمار ــــ هي المكان الأنسب لعقد الملتقى الأول للمهجريين العرب الذي سيتواصل في أوروبا. لكنه دخل في مواجهة علنيـــــة مع بعــــــض كبار موظفي «السلطة»، في الـــتأكيد على استقلالية الملتقى، بعد «محاولة اختطاف الملتقى، وتجييره لمصالح شخصية تمالئ التيار الفرنكوفوني»... دخل على الخط عنصر مفاجئ لم يكن موجوداً على البرنامج هو تكريم المستشرق جاك بـيرك! واعترضت النواة الأساسية للندوة على فكرة التكريم لا على شخصية المستعرب الكبير.
    وسأل الجراح: «بأي حق تُقطع أعمال الندوة، ويسافر المشاركون من دون علمهم من العاصمة إلى ولاية أخرى من أجل هذه المفاجأة؟». اعتقد المشاركون أنها مجرد رحلة لزيارة مغارة «ابن خلدون»، فإذا بهم يفجأون بأنهم استحضروا لمناسبة لا علاقة لها بالبرنامج بحسب الجراح. إذ لم تتفق «المكتبة الوطنية الجزائرية» أو «وزارة الثقافة الجزائرية» مع «المركز العربي للأدب الجغرافي» على إحياء هذه المناسبة. ما شأننا نحن؟ يقول الجراح، إذا «كان مدير المكتبة الوطنية له مآرب شخصية من تكريم جاك بيرك».
    وجاء الاحتفاء ـــ المقرّر سلفاً ـــــــ بسلمى الخضرا الجيوسي في «ملتقى المهجريين»، كما لو أنه رد على التكريم المقحم للمستعرب الفرنسي. الأكاديمية والمترجمة والناقدة العربية الرائدة، صاحبة مشروع «بروتا» لترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية (أسسته عام 1980) تحولت إلى أيقونة مضادة لجاك بيرك الذي كاد الطواف بمكتبته وآثاره في ولاية تيارت، أن يودي بالملتقى!
    الجيوسي الفلسطينية، المولودة في الأردن التي عاشت في عكا وبيروت، وفي المهجر طويلاً، ودرّست في جامعات عربية وأجنبية، تمثل نموذجاً «عروبياً» و«تعريبياً» في السياق الجزائري. لكن تكريمها أساساً في صلب تأنيث الثقافة العربية. إذ يرى نوري الجراح أنّ أهمية سلمى تكمن في كونها «بنت مشروعها في ظل عالم ثقافي عربي هيمنت عليه المشروعات الذكورية، لكنها تمكنت من أن تبز الرجال الذين احتفظوا للمرأة بمنطقة البوح الشعوري وكتابة الخواطر. أسهمت الخضراء الجيوسي في توليد نموذج جديد للمرأة العربية المبدعة، وهو ما لا يطيقه الذكوريون العرب».
    بالطبع كأي فكرة جيدة يبدو «تجمّع المهجريين العرب» قابلاً لأن يساء فهمه... وعلى المهجريين أن «يقاوموا» للمحافظة على استقلاليته، وبالتالي فاعليته، حتى لا يسقطوا في الفخ الذي تقع فيه التجمعات والاتحادات الأدبية في «الأوطان» العربية. ملتقى المهجريين درس أول في علاقة المنفى العكسية مع أرض النفي!