نور خالد
فرضت حرب تموز ٢٠٠٦ نفسها على الشاشة الصغيرة. فإذا بها تشكّل مفترق طرق في مسار الإعلام اللبناني والعربي. بعد العدوان الإسرائيلي، انقلبت المعادلات، أعيد توزيع «المحاور» وتحوّلت المحطات إلى متاريس... ماذا بقي اليوم من صور ذلك الشهر الدامي؟

حرب واحدة وشاشات. بات هذا العنوان، لفرط تكراره واعتياديته في المشهد الإعلامي اللبناني، أقرب الى «كليشيه»، لا يصلح بالتأكيد أن يكون استهلالاً لجولة تتمعّن في صورة تلفزيونية عمرها سنة ولدت في حرب وانتهت إلى حروب. تموز 2006 كان موعداً للصورة التلفزيونية مع تحدّي الإفراط. الحرب صورة مفرطة: مبالغة في الدم والقتل والتشريد، وخراب بجرعات هائلة. التلفزيون يُفرط أيضاً في سرعة نقل المعلومة. لحظوي، لا يقيم وزناً لالتقاط الأنفاس ولا الأفكار، كما تفعل الصحيفة. الحرب والتلفزيون التقيا في صيف سمّته قناة «العربية» «الصيف الساخن» واختارت له «الجزيرة» عنوان «الحرب السادسة».
ماذا بقي اليوم من هذه العناوين؟ آلاف اللقطات في «ذمة» الأرشيف التلفزيوني. أصوات مراسلي الحرب وكلام المحللين وآراء أهل السياسة والمجتمع. بعض المراسلين قال كلاماً من «ذهب». آنذاك، شكّلت الحرب فرصة اختبار كاملة لمهنية الصحافي وصبره. أن يواجه الإفراط بتأنّ وأن يكون واعياً لتواطؤ مضاعف يواجهه: إفراط الحدث ـــــ الحرب، وإفراط الوسيلة التي يعمل فيها، أي التلفزيون.
هذه المرّة، خاض الإعلام العربي امتحاناً حقيقياً، وعاش مواجهةً شرسةً ضدّ التعتيم الذي حاولت إسرائيل فرضه. تفوّقت محطات لبنانية وعربية على وكالات الأنباء العالمية، معتمدةً على شباب عربي مندفع، معظمهم من أبناء الوطن الذي يتعرّض للقصف. كانت الصورة التي تسابقت عليها الشاشة هي الحدث والشاهد الذي نقل إلى العالم مجازر إسرائيل في لبنان، والعنصر الوحيد القادر على تحريك الرأي العام.
صور الدخان المتصاعد من ركام عمارات الضاحية في بيروت، اللقطات الحصرية لانتصارات حزب الله العسكريّة من تدمير دبابات الميركافا إلى إغراق البارجتين، ثم صور جثث الأطفال في سلسلة المجازر... كلّها أقامت الدنيا في إسرائيل ولم تقعدها، فأعلنت حربها على الإعلام: استشهاد المصورة ليال نجيب، ورئيس محطة البث في LBC سليمان الشدياق قصف هوائيات إرسال محطات وإذاعات عدة، تدمير مبنى تلفزيون «المنار»، قصف متكرر لمواكب الصحافيين في جنوب لبنان واعتقال الشرطة الإسرائيلية لمراسلي فضائيات نقلوا التطورات الميدانية في شمال إسرائيل... ومع ذلك، اختلف التعاطي مع الحدث بين مؤسسة وأخرى تبعاً للخلفية السياسية التي تحرّك كلاًّ منها. كان كل شيء متوقعاً إلا أن يطاول الانقسام تغطية حرب يتعرّض لها وطن بكامله. وظهر هذا جلياً في اللغة الإعلامية التي اصطفتها بعض المحطات في الأيام الأولى، وحاولت تداركها لاحقاً من دون أن تنجح. هكذا اتخذت «أل بي سي» مسافةً واضحةً من المقاومة. أما «المستقبل» فلم تقع الحرب على شاشتها، إلا بعد أيام من بدء العدوان. في المقابل، صمدت «المنار» في وجه العدوان، وعبّرتNEW TV عن «ثورة» مهنية عارمة، وحين عجزت إمكاناتها اللوجستية عن المنافسة، فتحت الهواء لاتصالات الناس والأناشيد الوطنية.
برز أيضاً مراسلو «الجزيرة». عرف الناس أكثر عباس وكاتيا ناصر وبشرى عبد الصمد وتابعوا توجيهات وتحليلات غسان بن جدو من الاستوديو. اعتبرت «الجزيرة»، آنذاك، أنّ «حرب لبنان السادسة» هي حلقة إضافية في سلسلة الحروب التي تشارك في خوضها. كذلك رغبة القناة في إثبات قدرتها على الاحتواء الإعلامي لأحداث بهذا الحجم، من دون تسجيل أخطاء، لم تفارقها يوماً. وفي الوقت الذي كان فيه بن جدو يرتدي قبعته الزرقاء ويجول في أزقة الضاحية الجنوبية لتلقف أخبار دقيقة، كان مراسلو فضائيات أخرى يتّكلون على مصادرهم لتأكيد خبر سقوط طائرة اتضح أنها ليست طائرة! أما الموقف السعودي الذي حمّل المقاومة بدايةً مسؤولية الحرب، فقد عملت في ضوء «فلسفته» فضائيات خليجية عدة، بينها «العربية»...
ثم انتهت الحرب. كان على كلّ من قال كلام الذهب أن يحافظ على بريقه. بدت المهمة صعبة، إذ بقي الإفراط سيد الموقف مع تتابع تفجّر الأحداث، بين اغتيالات ومنازلات سياسية، تتخذ طابعاً حربياً في لبنان. تعزز الانقسام بين المحطات، حتى وصلنا أخيراً إلى معركة «نهر البارد» التي لم ينضب بارودها بعد... كانت وطأة المعركة أكبر من أن يحتملها صبر الصحافيين وتأنّيهم، كما صبر واضعي الأجندات السياسية التي تعمل في ضوئها المحطات. لم يعد هناك وقت للصبر، والمنطقة تتفجر من فلسطين إلى بغداد. تعب مراسلو الحرب المنتصرون في تموز الماضي، لكن كان عليهم أن يتوّجوا نجاحهم بنجاحات أخرى. «توهّج» هؤلاء بحماسة، أوقعهم في أخطاء كثيرة. لكنّهم بدوا مقتنعين بأنّ «من يعمل يخطئ»، وأن عليهم ألّا يتوقفوا عن الكد للتعويض عن الصيف الساخن بصيف «الاحتباس الحراري» الحالي.
سنة على شاشة تموز. الحرب التي كانت واحدة تكسّرت الى حروب صغيرة. والشاشات، عادت، لتكون واحدة في ارتكاب الأخطاء وارتباك المواجهة، وإن اختلفت صورتها ونكهاتها. اليوم، إنها حروب كثيرة وشاشة واحدة!