strong> ياسين عدنان *
يتمنى العديد من الشعراء وعشاق الشعر في بلداننا لو أنّ المؤسسة التعليمية العربية تعفَّفت عن تدريس الشعر فأراحت واستراحت. ليس فقط لئلا تُسبِّب المزيد من الإحراج لجحافل مدرسي اللغة العربية وآدابها ممن يخاصمون الشعر ودواوين الشعراء، بل أساساً لأنّ الطريقة التي يحضُر بها الشعر في أغلب الكتب المدرسية العربية لا تخدم الشعر أصلاً، ولا تُحرِّض عليه.
النماذج التقليدية التي لا تستجيب للوجدان الشاب المتوتر التواق إلى الحرية، تطغى أكثر من غيرها على تلك الكتب. كما أنّ النصوص الشعرية المقترحة في المناهج ما زالت تخضع مع الأسف لإكراهات التحقيب التاريخي، والتأطير الموضوعاتي، وأغراض الشعر، وغيرها من التحديدات التي تُعرِّض الدرس الشعري للتنميط والتعميم والاختزال بطريقة تصادِرُ عمقَ النص الشعري: قلقَه وإشراقاتِه وجمالياته المنفلتة.
أما الخطاب المدرسي، فما زال مشغولاً بالمضامين والأفكار الرئيسية التي يستغني بها عن تدفُّق التجربة الشعرية وحرارتها. إنّه حريص على شرح ظروف النص على حساب النص ذاته. أما بعض المدرسين الفضلاء ممن لا يخفون احتقارهم للشعر، فهم يختزلون النصوص التي تقترحها عليهم المقررات الدراسية إلى مجرد شواهدَ نحوية ليصير درس الشعر، بالنسبة إليهم، مناسبةً لتطبيق بعض قواعد النحو والبلاغة والعروض.
أين الشعر إذاً، وسط كل هذا الحشو الديداكتيكي؟ وكيف لمُدرِّسين لا يقرأون الشعر، ولا يتذوقونه، أن يُعلموه؟ يعلّمونه ليافعين منفتحين منذ نعومة وجدانهم على ثقافة الصورة: على السينما والتلفزيون والإنترنت وإمكانات العالم الافتراضي الجديد! طبعاً لا أحد ينتظر من هؤلاء أن «يخرّجوا» لنا دفعات جديدة من الشعراء. فالشعر يأتي دائماً من مكان آخر. بل إن الشرط الأول لتحقُّق الشعر والشاعر هو التمرد على هؤلاء المدرسين، وعلى جُذاذاتهم المُلفقة ومناهجهم البالية.
ومع ذلك، فنحن نحتاج اليوم إلى درس الشعر أكثر من أي وقت مضى. لكن بأية طريقة؟ وبأي أسلوب؟
يجيب الأديب المغربي عبد الغني عارف: «لا يُعير المدرسون اهتماماً للطاقات الشعرية الكامنة في تلاميذهم. فالتلاميذ بالنظر إلى المرحلة العمرية التي يمرون بها كلهم شعراء وشاعرات: وجدان طري، حب وشغف واضطراب وجنون رمزي، وفيض عاطفي مذهل. لذا كثيراً ما تكون الكتابة الشعرية ملجأهم الوحيد للتخفيف مما يعانونه». لكن استثمار الطاقة الوجدانية للتلميذ اليافع هي آخر ما يعني مدرس اللغة والأدب العربيين اليوم. كما أن الجوانب الوجدانية في القصيدة هي أول ضحايا العسف المنهجي وإكراهات الديداكتيك التي تكبل هؤلاء المدرسين.
وأخيراً، لماذا يحرص مدرس الشعر الذي لا يقرأ الشعر أصلاً، ولا يتذوقه، على أن يفهم كل شيء في القصيدة ويَشرَحها (أو يُشرِّحها) لطلبته بيتاً بيتاً؟
يجيب الناقد المغربي خالد بلقاسم: «تقديمُ الفهم، بمعناهُ المدرسي، على التحليل يمنع الاقتراب من إنتاج القصيدة للدلالة. إننا لا نعثر في الخطاب المدرسي على إمكان مصاحبة الغموض الشعري دون الانشغال بفهمه، لأن ذلك يزعج بنية المؤسسة. علماً بأن الشعر لا يُقرأ دائماً ليُفهم. فتأجيلُ الانشغال بالفهم يمكن أن يكون مدخلاً لإقرار الشعر». ويعقب الشاعر عبد الدين حمروش على هذا الإصرار الغريب على الفهم قائلاً: «إن الرغبة في الفهم تدفع إلى استثارة القوى العقلية المنطقية على حساب قوة التخييل ذات الطبيعة النفسية الوجدانية. يجب أن يتسع المجال لمرحلة الملاحظة ذات الصلة بالاستثارة الوجدانية للمتعلم، وكذا باستثمار القوى الانطباعية النابعة، في أصلها، من الطاقة الوجدانية والإيحائية التي تزخر بها النصوص الشعرية». وأخيراً، يضيف حمروش: «إن تدريس هذه النصوص يجب أن يأخذ منحى التربية على قيم الإبداع والجمال»، ومن ثمَّ «فإنّ مَن يهمل الشعر، في المدرسة أو خارجها، يهمل جوهر كينونته باعتبارها مرادفة للحلم والإبداع والجمال».
لكن، ماذا إذا غادَرنا الشعر وخاصمتنا الأحلام؟ أعتقد أن النتيجة واضحة ومؤلمة. فالذين يُفجّرون أنفسهم بين ظهرانينا هنا وهناك، في العراق والمغرب والجزائر وغيرها، من فرط اليأس والإحباط والكراهية، هم شباب لا يقرأون الشعر، أو لعلّهم درسُوه بركاكة أعطت نتائج عكسية حتى صادرت داخلهم طاقة الحلم والأمل وقيم المحبة والجمال والتسامح التي يرسخها الشعر عادة في نفوس البشر العاديين.
لذا لا نحتاج إلى الشعر ودرس الشعر لصناعة الشعراء، ولا لخلق كائنات هلامية شفافة تتجول في شوارع الاستعارة ممتطية صهوة المجاز... بل فقط لنكون بشراً من لحم ودم ومشاعر وأحلام. بشراً عاديين تماماً... كالآخرين في الجغرافيات الأخرى. فقط كالآخرين.

* شاعر وناقد مغربي، من أسرة «الأخبار»