محمد خير
أطلق عباس النوري تصريحاً عابراً عن الدراما المصرية، فتحوّل الخبر في لمحة بصر إلى حرب طاحنة بين مصر وسوريّة... وسائل الاعلام العربية تصطاد غالباً في المياه العكرة، تراهن على الانقسامات وتفتعل الأزمات، كي ينجح «الشو» ويعلو تصفيق الجمهور

يوماً بعد يوم، يبدو العقل العربي عاجزاً عن التعامل مع أي شيء من دون أن «يصنّفه». لا بدّ من ملفّ مفتوح لكلّ رجل أو قيمة أو فكرة أو عمل فني. لا يهمّ إن كنتَ مع أو ضدّ، مبدعاً أو ضحلاً، محليّاً أو أجنبياً... المهم أن تمتلك تصنيفاً محدداً، أو بالأحرى أن يمتلكك هذا التصنيف، حتى يتمكّن المواطن العربي، بناءً على ذلك، أن يعتبرك عدواً أو حبيباً. ومع «الإنفجار» الإعلامي، الدرامي والإخباري، في الفضاء العربي اليوم، حلّ التصنيف محلّ التثقيف. وها هي الشاشات ووسائل الإعلام تشهد إنقسامات عدة، فالجمهور الذي يحبّ هذا «الشوّ»، شجّع الميديا على «صناعة» شرخ، لم يخلقه الواقع بنفسه.
على ضوء ما سبق، يمكننا مثلاً قراءة الأزمة التي افتعلها موقع «العربية. نت» أخيراً، وهي لم تكن موجودة أصلاً. التقط تصريحاً عابراً للفنان السوري عباس النوري كان أدلى به لصحيفة «الثورة» الصادرة في دمشقّ، فحوّلها الموقع إلى «غضب في مصر من تصريحات فنان سوري عن مخرجيها».
استعرض «العربية. نت» التصريح «المحلّي» للنوري، انتزعه من سياقه، ومنحه عنواناً برّاقاً: «عباس النوري: أصغر مخرج في الدبكة السورية أهم من أي مخرج مصري»! هكذا أصبحت التصريحات «قضية». ومن أجل متابعة صحافية شديدة البراءة والمهنية، هرع محررو الموقع إلى فنانين ومخرجين وكتاب مصريين، ليعلموهم بما قاله النوري، ولينتزعوا منهم ردود أشدّ سخونة، بينها تعبير شعبي مصري أدلى به عميد الدراما التلفزيونية أسامة أنور عكاشة: «المشرحة لا ينقصها قتلى»... كما أشار حسين فهمي في لقاء صحافي أمس إلى أنه يتحدّى أي ممثل سوري يقدر على منافسة الممثل المصري على أداء مشهد معين، مؤكداً تراجع الدراما السورية لصالح الدراما المصرية. أهكذا تعمل الميديا العربية؟ نعم، لأن العقل العربي يعشق ذلك. المشاهد عندنا مجنون كرة قدم، لا يمكن أن يعيش من دون أن يرى العالم فريقين: لا بدّ من تشجيع الأول وسبّ الآخر. هنا فريق سوري وآخر مصري، تعاونٌ إيجابي بدأ يتحقق منذ أقلّ من عامين: فنانون سوريون يسافرون إلى هوليوود الشرق ليعيدوا ما انقطع منذ الخمسنيات والستينيات. هل يمكن أن يشجّع الإعلام هذه الظاهرة؟ هل يعقل حتى أن يدعها في حالها؟ لن يكون عربياً لو فعل ذلك. لا بدّ له من أن يتحدث عن «غضب بين الفنانين المصريين لأن السوريين تسببوا في خفض أجورهم»، و»امتعاض بين أعضاء النقابات الفنية القاهرية لأن أهل الشام يحصلون على أدوار المصريين».
في المقابل، كان لا بدّ أن تشتعل المعركة بين المخرج السوري نجدت أنزور ومواطنيه الذين اتجهوا إلى القاهرة: مستصغر شرر من تصريحات تنتزع من فمّ أصحابها انتزاعاً، وتصبح دليلاً على اتهام أنزور المسافرين إلى القاهرة بأنهم وقعوا في فخّ المخطط العربي لتصفية الدراما السورية، فيما ردّ هولاء بأن التطورات الجديدة أضرّت بمصالح أنزور وخططه الخاصة... كلّ هذا الضجيج عن القاهرة ودمشق؟! ماذا كان سيحدث لو جرى التعاون مثلاً بين دمشق وتل أبيب، أو القاهرة وإيلات؟
إلا أن موضة المصريين والسوريين ليست الوحيدة التي تكرّس هذا الانقسام، فالصراع المستمرّ بين المحجبات والسافرات يشكّل خير مثال على ذلك: الفنانات المحجبات يتكتلّن ضدّ زميلة لا تضع غطاء الرأس، ويتهمنّها بمحاولة إقناع واحدة منهن بخلع حجابها. فيما يدور الحديث عن تكتلّ مضادّ من نجمات غير محجبات تنتمين إلى أجيال أقدم، وتتصدّين لمحاولات المحجبات «هداية» الفنانات الشابات. أما بالنسبة إلى مسلسلات رمضان، فلم تجدّ محجبة واحدة منتجاً يتحمّس ليقدّمها في عمل جديد. وبما أن التلفزيون المصري رفض عرض بعض مسلسلاتهن، فيكون السبب المؤكد لذلك هو موقف الحكومة «العلماني» من المحجبات اللواتي استبعدت مسلسلاتهن... ما أسماء هؤلاء الفنانات؟ ما أسماء المسلسلات؟ وماذا عن حجم انتاجها، وأين تكمن أهميتها؟ لا يهمّ، الأساس في القضية هو أن تكون على يمين الملعب أو على يساره، لابدّ من أن تكون مصنّفاً.
والقصة لن تنتهي هنا طبعاً، هناك أيضاً مسلسلات الخليج... لا يصحّ أن يجمع الخليجيون بين المال والدراما الجيدة. لا يتفق هذا والعدالة، كما يعارض الصورة النمطية عن أعمالهم. وفي حين تتقدم الدراما الخليجية تدريجياً، ببطء ولكن بثبات، وتجذب جمهورها بدعوى انتمائه الجغرافي واللساني، ثم تجذب معجبين من بلدان عربية أخرى، تتحول برامج المنوعات لترضي الذوق الخليجي أولاً. ومع ذلك، تظل دراما الخليج بعيدة عن بؤرة الأضواء، فالدراما العربية غرب وشرق: شرقها الشام وغربها القاهرة. هكذا تختفي أخبار مسلسلات وفناني شبه الجزيرة العربية من مطبوعات القاهرة وبلاد الشام، في وقت لا يمكن طبعاً لمطبوعات الخليج أن تتجاهل نجوم النيل والشام، إنما تحتفظ بمساحة خاصة لنجومها الذين يتزايد عددهم، وتدخلهم إلى البرامج الحوارية، وتنشىء من أجلهم فضائيات خليجية خاصة... نظرة إلى «روتانا خليجية» توضح مدى نجاحها و»خصوصيتها» في الوقت نفسه. أهل شبه الجزيرة يكرّسون بدورهم روح الجزر المنفصلة، لينضم التقسيم خليجي /لا خليجي، إلى محجبة/ لا محجبة ومصري /سوري...
وما يمكن اعتباره بذرة صغيرة في الدراما يتحوّل إلى شجرة كافور بالنسبة إلى القنوات الإخبارية أو الرسمية التي تبدي اهتماماً أكبر بالأخبار والسياسة. هنا، لا مهرب من التصنيف: كيف يرتاح المرء إلى مشاهدة «الجزيرة» من دون أن يعتبرها في قبضة الإخوان الملسمين حيناً، أو الأميركيين حيناً آخر. كذلك بالنسبة إلى قناة «العربية» فهي «العبرية» في نظر بعضهم. أما بالنسبة إلى المحطات اللبنانية فقد اتخذت أقصر الطرق: صنّفت نفسها بنفسها. تلك تفخر بأنها مسيحية، وهذه تودّ أن تكون الناطقة باسم الشيعة، فيما تعتبر القناة الثالثة أن بدونها لا حياة للسنّة. أما الفضائيات الرسمية فهي طبعاً ابنة انظمتها السياسية، كيف يطمأن المرء إلى معلومة وسط كل هذا الانحياز؟ مفاجأة: لا يطمئن المشاهد العربي إلى معلومة إلا من خلال ذلك الحياز، الحقيقة هي حقيقة تلفزيون طائفته أو بلده أو اتجاهه السياسي، وما عدا ذلك كذب قراح.
ليس هذا غريباً على عالم عربي انقسم إلى فريقين بين «حماس» و»فتح»، يشجعهما بحرارة من دون أن يمدّ يدّ العون: أنت هنا مصنّف إذاً أنت موجود!