strong>بيار أبي صعب
  • شاركـــوا فـــي لعبـــة «الشـــرق الأوســـط الجديـــد»

  • لفتت الأنظار، في أقل من عامين، بغزارتها وتنوع تقنياتها. مشاريعها تجمع بين حدّة الرؤيا، ولغة بصريّة متعددة الوسائط. تعيش وتعمل بين عمّان ونيويورك، وقد خصت بيروت بتجهيز لافت بعد العدوان. إنها عريب طوقان التي كرّمتها «دارة الفنون» أخيراً...

    «قل لي ما يؤرقك، أقل لك من أنت». هذه الحكمة القديمة (بتصرف) تنطبق بامتياز على الفنون المعاصرة، التصوير الفوتوغرافي، والتجهيز، والفيديو تحديداً. فالتجارب ما بعد الحديثة زاوجت بين اللغات والمقاربات وزوايا النظر، جعلتها تلتقي عند نقطة واحدة: اللحظة الراهنة!
    وعريب طوقان هي ابنة ذلك الراهن بشكل مدهش. راهن مأزوم وصاخب. راهن هلامي يقف دائماً على شفا الهاوية، على حافة الضياع وتضارب المفاهيم والقيم، عند نقطة اللارجوع، أي الانتقال بالنسبة إلى العرب من نمط تعبيري إلى نمط آخر، من منظومة قيم إلى منظومة أخرى، من زمن (البداوة) إلى زمن آخر (ما بعد التاريخ). وبين القطبين، هناك دائماً هوّة شاهقة وجرح دفين: في تلك الأرضية الخصبة زرعت طوقان عدّتها. أخذت تسجّل وتمحو، تنثر جملاً من هواء. ترصد القهر الغائر في اللاوعي الجماعي. تبذل جهدها في أن «يتواصل الضحك»، وفي الوقت نفسه ألا ينقطع حبل الذاكرة الواهــي.
    قل لي ماذا يؤرقك، إلخ. عريب باحت بكلّ شي. في ليلة واحدة. ليلة أرق طبعاً. هذه الفنانة التي لفتت الأنظار خلال العامين الماضيين بمجموعة من المشاريع والمعارض والتجهيزات، من بيروت بعد حرب تموز، إلى نيويورك، مروراً بعمّان حيث استضافتها «دارة الفنون» أخيراً، هي شاعرة الآني والعابر والحميم والذاتي. شاهدة على اختلاط الأزمنة والحقائق. تبحث بنوع من الهوس، عن شيء ثمين، أساسي، ضاع منها. ننسى، أي نتذكّر! محمود درويش حاضر بقوّة في عالم هذه الفنانة، من خلال تلك العلاقة الجدليّة، الشائكة، بين التذكّر والنسيانالفنانة الفوتوغرافيّة الأردنيّة ابنة الثلاثين، الموزّعة بين دراستها الباريسية أو اختباراتها في نيويورك من جهة، والممارسة الفنية في واقعها الثقافي والاجتماعي والسياسي من جهة أخرى... تفضحها هويّة دفينة، تحملها كما يحمل سيزيف «صخرة» القدس في لوحة شهيرة لإبراهيم مرزوق (نلمحها في مشروعها الفوتوغرافي «سلسلة أيقونات»، 2006ــــ 2007)... عريب هذه تنتمي إلى سلالة جديدة من الفنانين العرب، يبحثون عن تأكيد حضورهم خارج اللغات والأشكال المتداولة في ثقافتنا الأدبية والبصريّة منذ خمسينات القرن الماضي. إنه جيل الفن المفهومي والوسائط المتعددة. جيل «الحساسية الجديدة» بتعبير إدوار الخراط. جيل السؤال الأخلاقي، والاحتجاج
    الخافت.
    من الصورة انزلقت إلى الفيديو... بمعناه المعاصر. أي كرافد من روافد تجهيز مركّب، يلعب على تعدد عناصر السرد ومستوياته، ويتوزّع على أكثر من شاشة ووجهة نظر. في تجهيز «حمار واحد وثلاث جمل» (3 قنوات، خشب ومرآة ــــ 2007)، شاشات الفيديو مدسوسة في علب صغيرة نتلصص من فتحاتها على حمار يأكل جملاً: شهدت مستقبلاً، تذكرت حاضراً، أدركت ماضياً. نعم، إنّه جيل لا يتذكّر الماضي بل يدركه، ويستنطقه عن الواقع الحالي، فيما الحاضر مادة هاربة تغذي أرشيفاً فورياً من الصور والذكريات. أما المستقبل، فقصّة نعرفها جيداً حتّى الملل.
    بيروت تـــتــــسرّب، في أحد مشاريعها، من رسم شهير لناجي العلي، يؤرخ للاجتياح الاسرائيلي (١٩٨٢). تجهيز «صباح الخير يا بيروت» (تركيب إنشائي متعدد الأبعاد، حبر مطبوع على ورق ــــ 2006)، يتيح للمتلقّي أن يتسلل إلى عالمها الحميم. نقرأ (والقراءة عنصر مهم في عالم طوقان البصري) الرسائل التي تسلمتها عريب عبر البريد الإلكتروني، مثل كاريكاتور ناجي العلي، خلال عدوان تموز الماضي. الرسائل تجسّدت أمامنا لفائف عملاقة بوسع الجمهور أن يتفاعل معها، أن «يقلّبها»، لقد أفلتت من عالم افتراضي يختزل المسافة.
    وفلسطين، في مشروع آخر، وشم مركّب، على ظهر رجل في الظلمة. تعود عريب في هذا العمل تقدّم «تنويعات» على موديل واحد. الجسد هنا مساحة للكتابة والتشكيل، أليست هذه الفلسفة الأصليّة للوشم؟ في مجموعة الصور الديجيتال التي ضمها معرض «رجل بوشم» (2007)، تبحث الفنانة عن فلسطين في الذاكرة الموشومة بخريطة. عينها تراقب، وتسجّل، تماماً كالعين التي تقحم نفسها داخل العرض، في تجهيز بعنوان «محاولة عدّ الذكريات من دون مقاطعة الضحك» ـــ (2007). في هذا الفيديو، العين تريد أن تكون الشاهد والموضوع في آن. وتؤرخ الفنانة للراهن، تصوغ أسئلته، من خلال عقد الخرز المفروط: حباته ترتطم في أرض ذاكرة بعيدة، ثم تتشكل جملاً عن الضحك والماضي والتذكر والنسيان...
    اكتشفنا عريب طوقان في بيروت مع تجهيز «ذكرني اتذكر انسى» (2,50 د) في معرض «نفَس بيروت» (فضاء SD). شاشة التلفزيون قسمان: إلى اليمين يد تكتب بغبار الذهب عبارة من ثلاث كلمات بالعاميّة: «ذكّرْني اتذكرْ إنسى»، ثم تمر القشّة لتشفط تلك الكلمات. وإلى اليسار لقطة ثابتة لحنجرة نسائيّة. يغمرنا صوت التنفّس الرتيب حتّى يستحوذ على وعينا. هذا العمل الذي شاهدناه في بيروت، صيف ٢٠٠٦، أسابيع قليلة بعد توقف الحرب، يختصر كل تجربة طوقان.
    يصبح الفيديو تجهيزاً حين يوظف الفضاء في كتابة مركّبة. تفلت الصورة من شاشتها المسطّحة، لتكتسب بعداً ثالثاً. وعريب تحاول تأسيس هذا البعد الثالث على لحظة الخلل. تقول إننا نتفرّج على موتنا، ونساهم في محو ملامحنا من الصورة. إننا نقيم في الوعي الجماعي ضريحاً للحاضر، وننتظر من يصوغ ميثولوجيا موتنا. نعم هذا كلّه في أعمال عريب طوقان ومشاريعها. لا تصدقوا ما تسمعه آذانكم، ما تراه عيونكم، ما تلمسه أصابعكم. الحقيقة في مكان آخر. مكان افتراضي، مرسوم بكلمات مهرّبة، وظلال منسيّة، ومؤثرات صوتيّة خانقة: تخدر المتلقي تارة، تدفعه إلى الهستيريا تارة أخرى.
    ذروة هذه المقاربة للحظة السياسية والحضارية الراهنة، تتجلّى في أحدث أعمالها: «الشرق الأوسط الجديد (الأجدّ)» (تركيب إنشائي تفاعلي، مكوّن من بلاستيك ومغناطيس ونيون وحديد من قياسات مختلفة، ٢٠٠٧). هذا التجهيز الذي عرض أخيراً في عمان، يدعو المشاهدين إلى إعادة تشكيل خريطة المنطقة. تعالوا العبوا معنا في صياغة «الشرق الأوسط الجديد»، حركوا قطع البلاستيك الممغنطة على اللوحة المعدنية المثبتة إلى الجدار. اكتبوا فوق خريطة «سايكس ــــ بيكو» الأصليّة. هنا قد يعي المتلقي، من خلال «فعل» جسدي، وعلاقة تفاعليّة مع العمل، أبعاد الخطر التي يتهدد المنطقة العربية في مشروع الإدارة الأميركيّة الحاليّة. أليست هذه التقنيّة من صلب «التغريب» البريختي؟ أهلاً بالرفيق برتواد بريخت في ضيافة الفن (العربي) المعاصر.