strong> حسين بن حمزة
اختار جنيد سري الدين، لعمله الجديد، عنواناً غريباً بعض الشيء، هو بيت من الشعر للمتنبي تتوالى فيه أفعال الأمر:
«عِش ابقَ اسمُ سُد جُد / قُدْ مُرْ انْهَ اسْرُ فَهْ تُسَل». لتأليف عمله يستثمر الفنان الشاب مواد وشذرات من مختلف فنون الفرجة. نجد فيه شيئاً من البرفورمانس، وشيئاً من التجهيز، وبقايا مسرح تقليدي وغير تقليدي. عرض ذو هويات عديدة لا هوية واحدة، وفكرته نفسها تحمل معنى التعدد والتشتت، إضافة إلى أن ثمة أكثر من فكرة تتدخل في تأليف العرض بشكله النهائي. ثمة رغبة لدى سري الدين وفريق عمله بألا تتاح لجميع مشاهدي العمل معاينة الفكرة ذاتها، واختبارها وهي تتكرر. لم يعمل على توصيل فكرة واحدة، بل ترك الفرصة لكل مشاهد كي يقوم بتأويل ما يشاهده. العمل، بهذا المعنى، مفكك والمشاهدون أحرار في نسجه وتأليفه بحسب انطباعاتهم وتصوراتهم.
زائر العرض مدعو للسير على سجادة حمراء. يُخيل له أنه مدعو إلى حفلة، لكنه سرعان ما يكتشف أنه في حفلة من نوع غريب ومختلف. ما أن يدخل حتى يجد نفسه في قاعة شحيحة الإضاءة، فُرشت أرضيتها وجدرانها بالنايلون. وثلاث ممثلات (لميا أبي نادر، نسرين مسعود، كريستال خضر) وأربعة ممثلين (محمد بني هاني، آرا سفريان، هاشم عدنان، عمر أبي عازار) يتقاسمون فضاء مشبعاً بالموت والعدم. إنهم يتقاسمون العرض فرادى. أي إنهم موجودون باعتبار أنّ كل واحد منهم هو مع المجموعة، وعلى حدة في الوقت نفسه. ستة منهم ثابتون في أماكنهم، أما السابع فيتحرك كأنه يخدمهم، أو ينقل رسائل غامضة في ما بينهم.
الصورة العامة أشبه بكهف ما بعد حداثي أو براد كبير للجثث. الممثلون أنفسهم ليسوا بعيدين عن الطقس الذي يشيعه المكان، فهم إما في طريقهم إلى الموت... وإما يعيشون موتاً عبثياً متكرراً.
هناك ألم كثير على الوجوه والأجساد، ومن الواضح أن أصحابها يرزحون تحت أفكار وطموحات وآمال شخصية لا تجد مكاناً لائقاً في حياتهم اليومية. هناك فلسفات وخلاصات ذاتية تتحكم بالفكرة التي يقوم عليها العرض، وتجد ترجمات مختلفة لها على حركات وملامح المشاركين فيه.
ولعل ما نجده في العرض هو خلاصةٌ ما لما يحدث في الواقع، فهو لا يعكس الواقع أوتوماتيكياً، لكن يبدو أن الشخصيات عالقة في مكان ما. وهذا ما نراه بالفعل: خمسة منهم عالقون وثابتون في أماكنهم. والسادس عالق في حركته المكرورة في ما بينهم. أما السابع فهو معلّق وليس عالقاً فقط (وهو عارٍ تماماً باستثناء غطاء يحجب ذكورته: وربما أكثر تفاصيل العرض براعةً، ويستحق أن يكون عرضاً بمفرده). ولعله ليس بلا دلالة أن نقرأ في بروشور العرض إشارة إلى نهر هيراقليطس الذي لا يمكن السباحة فيه مرتين، وإلى نرسيس الذي حاول تثبيت صورته في الماء، وإلى صخرة سيزيف التي كُتب عليه أن يحملها إلى الأبد.
جنيد سري الدين الذي فاجأنا قبل عام ونيّف بأشعار لوركا مكتوبة على لافتات في شوارع بيروت، وجد ضالته التجهيزية والأدائية في هذه الترجمة الفلسفية والتجريبية للواقع. لكن تنفيذ الفكرة ظل تحت ضغط الفكرة ذاتها، بثقلها وسماكتها. قد يكون أحد طموحات العرض إثارة انطباع كهذا. كل شيء وارد. لكن ثمة حيرة في اللغة التي تخاطب بها أعمال كهذه زائريها. ثمة عجز عن التعبير. ما من مفاتيح أو خيوط بديهية وسهلة في متناول المشاهد. لكن هذا، أيضاً، قد يكون متعمداً ومقصوداً. بطريقة ما، ينجح العرض في نقل عدوى فكرته إلى المشاهد. يبدو أن العرض حقق بعضاً من طموحاته في نهاية
الأمر.