strong>عثمان تزغارت
  • محامي الشيطان يواصل «استراتيجية القطيعة»


  • محامي جميلة بوحيرد انخرط في «جبهة التحرير الجزائرية»... صديق كارلوس أيام «الارهاب» الثوري، لم يتردد في الدفاع عن النازي كلاوز باربي. مساره غير الاعتيادي لفت نظر باربيت شرودر الذي حاول أن يفكك الأسطورة في “محامي الرعب ”. هل نجح الفيلم في حل ألغاز تلك الشخصية الاشكالية؟

    سيكون مهرجان «الإسكندرية السينمائي الدولي» في دورته المقبلة، على موعد مع «ضيف شرف» من نوع خاص جداً. ليس مخرجاً ولا نجماً سينمائياً... وإن سرق الأضواء في مهرجان «كان» الأخير، حين ارتقى درج قصر المهرجان الشهير، بقامته القصيرة وابتسامته الساخرة والسيجار الهافاني الذي لا يفارق شفتيه... إنه المحامي الفرنسي الأشهر جاك فيرجيس الذي عادت شخصيته الإشكالية الى الأضواء، من خلال فيلم «محامي الرعب» الذي يستعيد مساره السياسي والقضائي المثير للجدل، ويحمل توقيع السينمائي الألماني من أصل إيراني باربيت شرودر...
    «محامي الرعب» أو «محامي الإرهاب»، ليس لقب فيرجيس الوحيد. الصحافة الفرنسية سبق أن وصمته بـ«محامي الشيطان» عندما انبرى للدفاع عن قادة حرب التحرير الجزائرية. أما فيرجيس فيقول إنّ اللقب الأثير لديه هو «النذل اللامع» الذي أُطلق عليه عندما دافع عن السفّاح النازي كلاوز باربي. لم يكفّ فيرجيس عن إثارة الجدل، وخوض المعارك القضائية والفكرية منذ نصف قرن. رافع عن بطلة حرب التحرير الجزائرية جميلة بوحيرد في عام 1958... ثم تزوّجها! وانخرط في «جبهة التحرير» مقاتلاً سرياً اسمه الحركي «منصور»...
    والأمر ذاته تكرّر في منتصف الثمانينيات مع تنظيم كارلوس (منظمة الثوار الأمميّين)، الذي عهد إلى فيرجيس بالدفاع عن اثنين من مناضليه المسجونين في فرنسا: زوجة كارلوس الألمانية ماجدلينا كوب ورفيقهما السويسري برونو بريغيه. وإذا بفيرجيس يقع في غرام ماجدلينا، ما يقوده إلى الدخول في علاقات سرّية وغير قانونية مع كارلوس في ألمانيا الشرقية آنذاك، والتخطيط مع الألماني يوهانيس فاينرش، ساعد كارلوس الأيمن، لتهريب ماجدلينا من السجن!
    هكذا خالف فيرجيس الأعراف القضائية، متجاوزاً المسافة النقدية بينه وبينه موكله. انتمى إلى جبهة التحرير الجزائرية، وجاهر بذلك على غرار مثقفين فرنسيّين عدة. لكنّه ظل ينكر دوماً انتماءه إلى تنظيم كارلوس. إلى أن جاء باربيت شرودر ليثبت، في شريطه الوثائقي، أنّ تلك الصلات تتجاوز الأقاويل.
    لكن شرودر ترك أسئلة معلّقة: هل كان انتماء فيرجيس إلى تنظيم كارلوس بسبب غرامه بماجدلينا كوب؟ أم أنه نتيجة تقارب إيديولوجي؟ المعروف أنّ صلات وثيقة ربطت بين الرجلين في وقت مبكر، منذ التقيا في لندن، أواخر الستينيات، عبر الجزائري محمود بوديا رفيق درب فيرجيس في جبهة التحرير الجزائرية. بوديا أصبح مسؤولاً عن كارلوس في شعبة العمليات الخارجية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واغتاله الموساد في باريس عام 1975 ضمن العمليات الانتقامية التي أتبعت عملية ميونيخ. واستمرت صلاته بالتنظيم، بعد فكّ أسر ماجدلينا كوب، إذ التحق بها فيرجيس في ألمانيا الشرقية، لكنها هجرته لتعود إلى
    كارلوس.
    فيرجيس ينفي كل ذلك في الشريط، قائلاً إنّها ليست سوى «أقاويل مخبرين صحافيين». ويدّعي أنّ هؤلاء فبركوا قصّة غرامه بماجدلينا وروّجوا لانتمائه إلى تنظيم كارلوس. تلك الشبهات دفعت الرئيس ميتران إلى منح الضوء الأخضر لاغتياله في سويسرا عام 1986، لكن قائد خلية مكافحة الإرهاب في الإليزيه وقتذاك، بول باريل الذي تربطه صداقة قديمة بفيرجيس، حال دون ذلك.
    باربيت شرودر له رأي آخر. فهو يؤكد أن فيرجيس كان عضواً في التنظيم تحت اسم «هيرزوغ»، مستنداً إلى أرشيف جهاز «ستازي» (استخبارات ألمانيا الشرقية سابقاً)، ويوميات مخطوطة بيد يوهانيس فاينرش، الرجل الثاني في تنظيم كارلوس.
    هذا المسار غير الاعتيادي بالنسبة إلى محامٍ، منح فيرجيس شهرة عالمية، وأكسبه شعبية لا تضاهى في أوساط اليسار، وخصوصاً أنّ نشاطاته لم تقتصر فقط على المحاماة، بل ترأس أيضاً، خلال ستينيات القرن الماضي، مجلة «الثورة» المموّلة من الجزائر. وأقام من خلالها علاقات وثيقة بقادة وزعماء بارزين من ماو تسي تونغ إلى كاسترو، مروراً بـ... بول بوت! وحين قرر الدفاع عن كلاوز باربي في عام 1987، لم يفهم محبّوه ومنتقدوه على السواء، كيف أمكن الرجل المعروف بأفكاره الراديكالية_كان في الرابعة عشرة عندما التحق بصفوف المقاومة الفرنسية_ أن يرافع عن مجرم نازي.
    لكنّ فيرجيس عرف كيف يستثمر الضجة الإعلامية الكبيرة التي أثارتها محاكمة باربي، لابتكار «استراتيجية القطيعة» التي باتت اليوم نظرية تُدرَّس في معاهد القانون. إذ قلب محاكمة باربي إلى محاكمة للدولة الاستعمارية الفرنسية. ووقف في المحكمة يقول: «إن موكلي مجرم نازي، نعم. وهو مذنب، ويستحقّ العقاب من دون أدنى شك. لكن مَن أنتم حتى تحاكموه. أنسيتم ما اقترفتموه من مجازر وجرائم في المستعمرات؟».
    وما زال جاك الرهيب يصرّ على صوابية قراره. يسأله شرودر في الفيلم عن دوافعه في المرافعة عن شخصيات مقيتة، وهل كان سيقبل الدفاع عن هتلر، مثلاًَ؟ بلا تردد يجيب: «بالطبع! يمكنني أن أدافع حتى عن جورج بوش... شرطي الوحيد أن يعترف موكّلي أمام المحكمة بأنه مذنب!»