ما زالت قضية المهدي بن بركة راهنة، ومثار جدل متواصل، على رغم مرور 42 سنة على اختطاف المعارض المغربي الشهير، وقتله في باريس. وها هي «القضيّة بن بركة» تعود إلى الواجهة، عبر دراما تلفزيونية (حلقتان من 90 دقيقة) من إنتاج «فرانس تلفزيون»، وإخراج جان بيار سينابي. وكان الفيلم قد عُرض أخيراً في «مهرجان روما للدراما» في نسخة سينمائية (120 دقيقة).
هذا العمل هو رابع فيلم يُنجز عن عملية اختطاف بن بركة واغتياله التي تورطت فيها أنظمة سياسية وأجهزة مخابرات أكثر من بلد. كان إيف بواسيه قد استوحى من القضية شريطاً روائياً عام 1972 بعنوان «الاغتيال» (بطولة ميشال بيكولي وجان لوي ترينتينيان). ثم تصدّت المخرجة الإسرائيلية المعادية للصهيونية، سيمون بيتون للقضية ذاتها في شريط توثيقي من 90 دقيقة، بعنوان «مهدي بركة: المعادلة المغربية».
وإذا كان بواسيه قد أنجز فيلماً نضالياً ندّد فيه بتواطؤ أجهزة الأمن الفرنسية مع نظيراتها الأميركية والإسرائيلية والمغربية في عملية خطف بن بركة، فإن سيمون بيتون رأت أن الجدل حول قضية الاختطاف حجب عن الأذهان شخصية بن بركة، ومكانته المميزة على الساحة السياسية بصفته أحد قادة الصحوة والوطنيّة في العالم الثالث. لذا اختارت أن تخصّص شريطها لمسار بن بركة السياسي، وأن توقفه عند لحظة وقوعه في فخ الاختطاف.
في عام 2005، أخرج سيرج بيرون فيلماً روائياً ثانياً عن القضية تحت عنوان «رأيت بن بركة يُقتل». وهو العنوان ذاته الذي تصدّر غلاف مجلة الـ «إكسبرس» الفرنسية في كانون الثاني (يناير) 1966، في اعترافات لأحد الأطراف الرئيسية التي اشتركت في تدبير اختطاف بن بركة. وهذا الطرف ليس سوى المنتج السينمائي جورج فيشون الذي عُثر عليه مقتولاً أو منتحراً في ظروف غامضة، بعد أسبوع واحد على نشر
اعترافاته.
افتتح بيرون فيلمه بمشهد العثور على جثة فيشون ليروي قصّة هذا الرجل الذي بدأ مجرماً صغيراً في عصابات القمار، وأصبح منتجاً سينمائياً ووجهاً ثقافياً بارزاً من وجوه الحي اللاتيني العريق في باريس الستينيات. كان جورج فيشون صديقاً مقرّباً من الروائية مارغريت دوراس ومن جان بول سارتر الذي خصّه بـ «بورتريه» خاص بقلمه في مجلة «الأزمنة المعاصرة» التي كان بطرك الوجوديّة مؤسسها ورئيس تحريرها.
بين كل الأعمال التي تناولت تلك القضية الشائكة، يمكننا أن نقول إن «القضية بن بركة» هو الأكثر اكتمالاً. فعلى صعيد المضمون، ألمّ الفيلم الجديد الذي أخرجه جان بيار سينابي (بطولة عثمان خليف وسيمون أبخاريان وجيلبر مالكي)، بكل خلفيات خطف بن بركة وتصفيته، وأسرار العمليّة... فيما قام الشكل الفني على المزاوجة بين الروائي والوثائقي Docu-fiction. ذلك لأنّ الفيلم هو أول عمل فني يُنجز عن قضية بن بركة بعد إعادة الاعتبار إليه في المغرب، وبعد استجابة القضاء الفرنسي، في آذار (مارس) 2005، لمطالب عائلته برفع السرية عن أرشيف المخابرات الفرنسية المتعلق بالقضية.
كل ذلك أدّى إلى سقوط تابوهات كثيرة، وهو ما أتاح لجان بيار سينابي أن يصوّر عمله من دون أية قيود أو ضغوط، في المغرب وفي فرنسا، وأن يقدّم المقاربة الأكثر شمولاً واكتمالاً عن خلفيات مؤامرة تصفية بن بركة.
لقد ربط الفيلم الجديد قضية التصفية بمكانة بن بركة البارزة بصفته أحد أبرز أقطاب حركات التحرر في العالم الثالث، الأمر الذي جعل النيران تنفتح عليه من جهات عدة، على خلفية المؤتمر الذي كان مزمعاً أن تعقده في هافانا «منظمة القارات الثلاث» التي كان يرأسها. لذا التقت مصالح أربعة أجهزة استخبارات هي: CIA الأميركي، والموساد الإسرائيلي، والـ DST الفرنسي ونظيره المغربي. الأجهزة الأربعة تكاتفت جهودها للإيقاع به وتصفيته. وقد كانت تلك الأجهزة بمثابة قائد الأوركسترا المشرف على تدبير مؤامرة الاختطاف التي أدّى فيها المنتج السينمائي جورج فيشون دور الطّعم. إذ استغلت الأجهزة المتآمرة على بن بركة الماضي الإجرامي لفيشون، ووضعه المالي المشرف على الإفلاس، بفعل وقوعه في غرام حسناء كانت تحلم بأن تصبح ممثلة، لإغوائه مالياً من أجل استغلال مكانته منتجاً، وصلاته الوثيقة بمارغريت دوراس، لاستدراج بن بركة والإيقاع به.
كانت الذريعة التي اصطيد بها بن بركة، هي مشروع فيلم وثائقي عن حركات التحرر في العالم الثالث، تحت عنوان Basta. وكان بن بركة لحظة اختطافه أمام مطعم LIP الشهير في حي سان جيرمان الباريسي، متوجهاً للقاء مارغريت دوراس التي كان يفترض أن تكتب سيناريو ذلك الفيلم، والمخرج جورج فرانجو الذي كان سيتولى إخراجه، فيما طُلب من بن بركة أن يكون مستشاراً سياسياً وتاريخياً للفيلم.
ويختتم جان بيار سينابي فيلمه في اللحظة التي تم فيها تسليم بن بركة إلى وزير الداخلية المغربي سيئ الصيت، الجنرال أوفقير. ليترك السؤال معلقاً: ما مصير جثة بن بركة؟ وهل يُعثر عليها يوماً؟
عثمان...