نجوان درويش
جرعات لاذعة من النقد و«صفعات» قاسية وجهها الموسيقي البريطاني نايجل كندي للسياسة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي في حفلته ليلة أول من أمس في «مهرجان القدس»، وقد أحيا الحفلة بمرافقة مجموعته البولندية للجاز «خماسي نايجل كندي». الفنان الجريء والساخر ختم حفلته بمقطوعة أهداها «إلى أشخاص يسكنون بيتاً أبيض ونظيفاً في واشنطن والمقطوعة اسمها الغزاة». المقطوعة التي تحكي عناصرها الموسيقية عن بلاد تتعرضللنهب والبربرية لا يردعها شيء، قال كندي ذلك في أداء موسيقي درامي يهز المشاعر والضمير معاً؛ ولم يكن بالطبع من الصعب الإدراك أنها تتحدث عن غزو بغداد واحتلال العراق. حفل كندي الذي عُدَّ حدثاً كبيراً في المدينة المحتلة ـــــ من الناحيتين الفنية والسياسية؛ بدأه عازف الكمان المرموق بكلمة قال فيها إنه يستهجن «إقامة نظام فصل عنصري في القرن الواحد والعشرين» ويستهجن أيضاً صمت العالم... وأضاف ساخراً: «الأمم المتحدة لا تصل إلى هنا لترى ما يحدث... قد لا يوجد نفط كاف لوصولها». وأعرب عن سعادته بالعزف «في القدس، في فلسطين» وشكر الحضور بكلمات عربية على الحفاوة البالغة التي قوبل بها. ولم يخف كندي تضامنه مع الشعب الفلسطيني وقضيته وقال إنه «حتى لو تواطأ كل العالم على الصمت فسأتحدث عنها أينما ذهبت». بملابسه البسيطة وتحت معطفه الأسود الخفيف كان كندي يلف حول خصره كوفية فلسطينية (أو هي الكوفية السوداء ذات المربعات الصغيرة التي تسمى في فلسطين «الكوفية العراقية») بطريقة قريبة من الطريقة التي يتحزّم بها الأكراد أو الفلاحون في بعض مناطق بلاد الشام. وقد جاءت الرسالة السياسية لكندي أمام جمهور فلسطيني وأجنبي من ضمنه حشد من موظفي البعثات الدبلوماسية الأجنبية في القدس. لا يمكن وصف حفل نايجل كندي إلا بكونه ساحراً وعالياً بجميع المقاييس، إذ إن الطاقة التي أشاعها عزف كندي لأكثر من 600 شخص حضروا حفلته في الهواء الطلق للساحة الأثرية لـ«قبور السلاطين» أصابتهم ببهجة ونشوة ومشاعر تفوق الوصف.
على المنصة كان الفنان يبدو كأنه عالم نقي ومرتفع ومفتوح أمام الجميع وموسيقاه جرعات كبيرة من الأمل. كندي كسر الصورة التقليدية للعازف الكلاسيكي الرصين التي تشبه شخصية الكاهن، وهو يتصرف على المنصة بعفوية وتلقائية جميلة لـ«صعلوك» من لندن يفيض بالصدق. فلم يتوقف عن مداعبة الجمهور طوال الحفلة ونزل من على المنصة وعزف بينهم وداعب بعضهم. وبين انتقاداته وتعليقاته السياسية، التي نثرها هنا وهناك، غنى كندي أغنية ساخرة عن رجل توقظه زوجته من النوم لأنها تريد أن تتسوق، في نقد لثقافة الاستهلاك وتسليع الإنسان. كما لم تنقطع مداعباته لعازفي فرقته البولنديين الأربعة (ساكسفون، كونترباص، بيانو، درامز) الذين أشعرهم بأنهم نجوم مثله، وأتاح لكل واحد منهم أن يبرز شخصيته الموسيقية أثناء العزف في وقفات منفردة لعازف كل آلة. جسّدت حفلة كندي ورفاقه الموسيقيون البولنديون بإبداع منقطع النظير مقولة إن الموسيقى هي حتماً ضد الاحتلال وإنها ابنة الحرية وحاميتها في الوقت ذاته.