strong> نور خالد
احتمالات كثيرة ترد إلى البال لدى محاولة تخمين السبب الذي دفع بزافين قيومجيان إلى «فتح سيرة» مضى عليها قرن من الزمن: «سلطانة الطرب» العربي منيرة المهدية، وحروبها مع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب... احتمالات تبدأ من رغبة القول إن «اللامناسبة» قد تكون بحدّ ذاتها مناسبة تلفزيونية. وبالتالي، يجوز لبرامج «التوك شو» أن تفرد هواءها لسيَر شخصيات تاريخية من دون أن يكون هناك احتفاء بميلاد أو ذكرى موت أو حادثة تعيد صاحبها الى واجهة الإعلام. إن جاز هذا المنطق، فإن قيومجيان في حلقة «سيرة وانفتحت» أول من أمس على «المستقبل»، يكون قد سجل جرأةً يحتاج إليها مشاهد الفضائيات، بين حين وآخر، إذ بات هذا الأخير حبيس جملة من الموضوعات والوجوه التي تلوك نفسها بين استوديو وآخر، سواء كان السياق سياسةً أو فناً أو حتى طبخاً وتنجيماً... الاحتمال الثاني يكمن في نيّة البرنامج إيجاد الفرصة، أو ما يسمى في قاموس الإعلام الذريعة، لاستضافة وجهين ملتزمين في مجالهما. وقد يصح القول إنهما من الوجوه العربية النادرة في فهمهما لموسيقانا العربية والشرقية بشكل عام، وتوظيف هذا الفهم لإنتاج المفيد والمثير للانتباه، في زمن علا شأن الرديء والاستهلاكي الفجّ. الياس سحاب، الخبير الموسيقي الذي تختزن ذاكرته الكثير من المعلومات الممنهجة والدقيقة بشكل لافت، وخالد عبد الله، ذلك المطرب الملتزم الذي يبقى إحدى شموع بيروت الرافضة أن تنطفىء. إيجاد الذريعة هو حق مشروع أيضاً. أما أن تحمّل الحلقة مهمة «توعوية» من قبيل إسقاط أدوات المشهد الفني قبل مئة عام على ما يحصل اليوم في ساحة الغناء، كما أشار مقدم البرنامج، وكما يوحي عنوان الحلقة «وينك يا منيرة؟»... فإنه «وهم» كان بالإمكان الاستغناء عنه، إذ إن الرغبة في مطاردة ذلك الخيط الذي يربط حكاية جبهة منيرة ــــــ أم كلثوم بجبهة نانسي ــــــ هيفا ــــــ إليسا، أوقعت الحلقة، والمعدّ نفسه، في عدة «مطبات». بدا ذلك حين سأل زافين سحاب إن كان العمر كفيلاً بأن يضع المغنيات الثلاث في مصاف العظماء، «كما كان الأمر بالنسبة الى أم كلثوم وعبد الوهاب». أتى جواب سحاب بديهياً: «إن العظماء يخلقون مع مواهبهم، والأمر لا يتعلق بعدد السنين، وعبد الوهاب جلس على عرشه مبكراً بعد تلحينه قصيدة أحمد شوقي يا «جارة الوادي». وكذلك فعلت أم كلثوم مع أغنية «إن كنت أسامحك»... وهناك فرق بين المشهور والعظيم».
اللهاث وراء ذاك الإسقاط ـــــ ربما لإعطاء الحلقة ذريعتها عبر ربطها بمسألة راهنة ـــــ فوّت فرصة الاجتهاد بشكل أفضل في إعداد المعلومات التاريخية عن منيرة المهدية، إذ واجه الخبير سحاب عدداً كبيراً منها بعبارة «مش دقيقة هيدي المعلومة».
عبارةٌ تبعث الفرح لدى المشاهد بأن هناك من لا يزال يملك المعلومة الموثّقة، وأكثر من ذلك أنه يطلّ علينا من التلفزيون الذي بات يموج بالأضاليل. فرحٌ يحرّض على دعوة «جماعة التلفزيون» إلى أن يتحمسوا أكثر للخبراء الجدّيين، والابتعاد عمن يمكن تسميتهم خبراء «الهنك والرنك» السائدين. وهو التعبير الموسيقي الذي استخدمه زافين لدى حديثه عن نوع من الموسيقى «غير الجدية»، انتشر في نهاية القرن التاسع عشر.
في المقابل، لم نعرف الكثير عن رائدة المسرح الغنائي التي تعتبر أول سيدة عربية تقف على الخشبة، إذ فُوّتت الفرصة أيضاً لإلقاء الضوء بشكل جدي على مكونات شخصية المهدية التي جعلتها تشنّ حرباً عدائية وشرسة، رافضةً قبول انحسار الأضواء عنها. أما في ما يخص صراعها مع أم كلثوم، فقد أجاب سحّاب بأنه كان لـ«السلطانة» كل الحق بالدفاع عن مكانتها، حتى لو وصل بها الأمر إلى دفع الصحافيين لتشويه صورة «سومة» عبر الإشارة في مجلة «المسرح»، مثلاً، إلى أن أم كلثوم لم تزر مصر بحثاً عن فرصة للغناء، بل هرباً من بلدتها طماي حيث تعرّضت للاغتصاب! إضافة إلى إعلانها الحرب على عبد الوهاب، بعدما سرق منها الأضواء في مسرحيتهما المشتركة «كيلوبترا». تبقى الإشارة إلى أن دعوة زافين على الهواء للجمهور إلى التردد على المكان الذي يغني فيه عبد الله لم تكن إعلاناً مجانياً بقدر ما كانت تحريضاً وتذكيراً بخريطة الفن الجميل في هذه المدينة «المكتئبة».