strong>أمل الأندري
  • «الابن الضال» عاد إلى اليابان بعدما فقدت كبرياءها

  • يعرف القارئ العربي ميشيما وكواباتا وتانيزاكي، وربما اكتشف كنزابورو أوي بعد نوبل (١٩٩٤)... لكنه قد لا يكون متآلفاً مع هاروكي موراكامي الذي «انشقّ» عن الأدب الياباني. «المركز الثقافي العربي» أصدر روايتين لهذا الناطق الرسمي باسم جيل القطيعة مع القيم السائدة

    «بعد الحرب والحداثة، تشظّى حسّ الانتماء لدى الإنسان الياباني، فحاول إعادة ترميم المنزل المفقود عبر رصد جمال الطبيعة والثياب والأطعمة اليابانية»... هكذا يرد هاروكي موراكامي (1949)، بطريقة غير مباشرة، على الذين يرون أنّه الابن الضال الخارج عن الخصوصية التي تميز الكتّاب اليابانيين.
    وربما كان منتقدو موراكامي على حق. هاوي الجاز الأبدي الذي ترجمت رواياته الى 38 لغة بينها العربية، (أخيراً صدرت «الغابة النروجية» و«جنوب الحدود، غرب الشمس» عن «المركز الثقافي العربي»)، لا تشير أعماله للوهلة الأولى إلى أنه كاتب ياباني. كتاباته مزيج من إحالات على أمكنة ورموز وأيقونات ثقافية متعددة من ستيفن كينغ إلى سكوت فيتزجيرالد، ومن ديكارت إلى بيكاسو فـ... إلفيس بريسلي، ومن الدار البيضاء إلى الباستا والساكي وجوني ووكر الذي يقتل القطط ليصنع من أرواحها نوعاً خاصاً من الفلوت في روايته «كافكا على الشاطئ» التي نال عليها جائزة فرانز كافكا العام الماضي. هذا من دون أن ننسى هوسه المرضي بالجاز ورموزه كديوك الينغتون ونات كينغ كول الذي استعار منه أغنية «جنوب الحدود» عنواناً لإحدى رواياته.
    أسلوب موراكامي بدوره، لا يشذّ عن هذه القاعدة. في نصّه تلمس شيئاً من سوداوية كافكا الوجودية، وبعضاً من غرابة بورخيس، وعناصر مختلفة استعارها من الروائيين الذين ترجم أعمالهم الى اليابانية مثل ترومان كابوتي وريمون كارفر وجون آيرفينغ وسكوت فيتزجيرالد. «كنت صبياً عادياً يتحدر من الطبقة اليابانية الوسطى. بالطبع، عام 1968، كما في العالم كله، احتللنا الجامعات وحاربنا الشرطة حالمين بعالم مثالي. لكن المجتمع كان أقوى منّا، فتخليت عن كل شيء».
    الابن الوحيد كما بطل روايته «جنوب الحدود، غرب الشمس» تمرّد على والده أستاذ الأدب الياباني والمحارب السابق الذي عايش ويلات هيروشيما وناغازاكي، لينهال على القصص البوليسية الأميركية والروايات السوداء. إنّه ابن الجيل الذي تربّى على الثقافة الأميركية برموزها المختلفة. وبعد الجامعة، في عزّ الفورة الاقتصادية لبلاده التي نهضت من كبوة الحرب ــــ خلافاً لشبان مجتمعه وطبقته ــــ سيرفض أن يكون موظفاً في إحدى تلك الشركات التي باتت عنواناً للازدهار الياباني، مثل «تويوتا» وغيرها... بل سيعتنق حياة بوهيمية خارجة عن الإطار التقليدي، مفتتحاً نادياً للجاز في طوكيو عام 1971، وممارساً عشقاً راوده مراهقاً لمّا يبلغ الخامسة عشرة.
    أمّا الوحي، فلن يسقط عليه إلا في التاسعة والعشرين، وهو في دوامة من الضجيج والجلبة خلال مباراة بايسبول. بهذه السريالية، ستخرج روايته «اسمع زفيف الريح» عام 1979. قبل تلك الولادة المفاجئة، كان موراكامي تعلّم أصول الكتابة من الجاز: «في الموسيقى كما في الروايات الخيالية، الإيقاع هو أهم شيء. هذا درس أساسي تعلّمته من الموسيقى. بعد الإيقاع تأتي النغمة، وهي في الأدب حسن توظيف الكلمات، واستعمالها بشكل مناسب لتلائم الإيقاع... ثم تأتي الهارمونيا، أي مزج النغمات، وأخيراً الارتجال الحرّ الذي أحبه كثيراً».
    موراكامي يكتب روايات عن عادية الحياة المعاصرة، ويكشف بطريقة سريالية القلق الميتافيزيقي الذي يحيط بالإنسان المعاصر. ملامح شخصياته لا تتغيّر كثيراً من عمل إلى آخر. هي غالباً كائنات عادية تعاني الوحدة والخواء الداخلي، وتجد ملاذاً في طبخ الباستا أو سماع الجاز. وربما أكثر ما يميزه هو طريقة تصويره لمجتمع يغرق في الاستهلاك هرباً من فراغه الداخلي.
    رواياته ملأى بشخصيات تعيش على هامش حياتها، تؤدي أدوارها اليومية بروتينية ترقى، مع موراكامي، إلى مصاف السريالية... كل ذلك على خلفية تاريخية واجتماعية تمثّل فسيفساء للعاصمة طوكيو منذ الستينيات أيام ثورة الطلاب الى الأحلام المجهضة والتطبيع مع الزمن الاستهلاكي، ومن ماضي اليابان الإمبريالي العظيم الى عوارض المجتمع المهزوم الخارج للتوّ من هيروشيما وناغازاكي. هناك دوماً حكاية اختفاء وقصة فقدان في أعمال موراكامي: فقدان الأحلام، والحب، والأشخاص، والماضي والتاريخ.
    عندما صدرت «الغابة النروجية» (1987) تحوّل موراكامي الى نجم pop. الرواية التي تستعير عنوانها من أغنية لـ«البيتلز»، باعت ثلاثة ملايين نسخة وكرّسته ناطقاً باسم جيل تائه لا يجد نفسه في نظام القيم السائدة. تُرجمت الرواية الى الكثير من اللغات، راصدةً جيل ستينيات القرن المنصرم، جيل البيتلز الذي يعيش حياةً بوهيمية ملأى بالجنس العابر. فيها نرى ياباناً أخرى، شبابه يسمع بيل ايفنز، ويقرأ توماس مان ويشرب القهوة بنهم... نعيش تلك الحقبة من خلال شخصية ترو واتانابي الذي تعيده أغنية البيتلز الى سنوات الدراسة الجامعية.
    بعد «الغابة النروجية»، قرر موراكامي أن يتحدث عن الفراغ في مجتمع المعلومات والمال ووسائل الاتصال الحديثة. تفوح من روايتهDance Dance Dance ــــ مثلما «جنوب الحدود، غرب الشمس» ــــ رائحة نوستالجيا إلى الحب الماضي البريء الذي يقابله الراهن الاستهلاكي الفجّ. إلا أن النجاح الحقيقي لن يحقّقه موراكامي إلا عام 1994، مع روايته «The wind-up bird chronicle» التي ركّزت على فقدان آخر، هو فقدان التاريخ. والصعوبة التي يواجهها الشعب الياباني في تصفية حسابه مع الإرث الجماعي، ومسؤوليته عما جرى خلال الحرب العالمية الثانية. الرواية قائمة على تنقّل زئبقي بين الواقع والحلم، بين الماضي والحاضر، وعلى مزج عناصر عديدة من قصص حروب أخرى، لإبراز العنف الذي عاناه الصينيون لدى اجتياح اليابان منطقة مانشوريا (شمال الصين) في الثلاثينيات.
    لم يتصالح موراكامي مع بلده ويحلّ علاقته الإشكالية به إلا عام 1995 عندما عاد بعد اقامة سنوات في أوروبا والولايات المتحدة، ليقيم فيه على خلفية التفجير الذي هزّ أنفاق طوكيو. فجأةً اكتشف أنّ اليابان لم تعد تعاني تلك الكبرياء وتلك الغطرسة اللتين كانتا تتملكانها إبّان سنوات الازدهار الاقتصادي. «لقد دخلت مرحلة التشكيك وأصيب بالوعكة بعد حادثة تفجير مترو طوكيو».
    هكذا، سيعود صاحب «بعد الظلام» ليكتب Underground (1997). جاءت الرواية أقرب الى تحقيق صحافي، يرتكز الى المقابلات التي أُجريت مع ضحايا الهجوم الذي نُفّذ بالغاز في أنفاق طوكيو، إضافةً الى مقابلات مع رجال ينتمون الى طائفة «أوم شينريكيو» التي نفّذت الهجوم. ويخلص موراكامي الى أنّ منفّذي الهجوم قد يكونون مثلنا أشخاصاً عاديين، يعانون الوحدة والفراغ والإحباط، في مجتمع صناعي يفقد أفراده، يوماً بعد يوم، صِلاتهم الإنسانية.
    ولعله من المثير رصد وقع ذلك العالم الروائي على القارئ العربي. عالم يصطدم باستمرار بالجماعة وقيمها السائدة، يكشف خواء الروح والإحباط الجماعي والضياع والإسراف الاستهلاكي. قد يبدو موراكامي لكثيرين «عربياً» أكثر من أي كاتب ياباني آخر في جيله...