عدي الموسوي
كتاب جديد يعاود النبش في نشأة «الصيغة» اللبنانيةالتاريخية، انطلاقاً من الكينونة السياسية لجبل لبنان خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لكنّ محور البحث هذه المرة، طائفة حاضرة غائبة، هي المسلمون الشيعة على امتداد جبيل وكسروان

الدراسة التاريخية تتخذ أحياناً شكل النبش الأركيولوجي في الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب... ولعل كتاب «المسلمون الشيعة في كسروان وجبيل» (دار الهادي ــــ بيروت)، خير مثال على ذلك. في هذا البحث يقدّم علي راغب حيدر أحمد حصيلة دراسته الأكاديمية التي كوّنت نواة رسالة دكتوراه. ويتجلّى ذلك في عرضه لمنهج الدراسة والصعاب التي واجهها في تجميعه مادة البحث. ويكشف مسار الباحث بوضوح النقص الكبير في الوثائق التي تؤرّخ للشيعة في تلك المنطقة. ويعزو المؤلف ذلك إلى النكبات التي تعرّض لها هؤلاء، وما نجم عنها من مصادرة لتلك الوثائق أو إتلافها. لكن هناك سبباً إضافياً لهذا النقص هو الإهمال. إذ نقل المؤلف عن أحد الاختصاصيين في الواقع الشيعي لهذه المنطقة، أنّه أضاع نسخته الخاصة ببحثه الأكاديمي عن هذه المنطقة!
يبدأ علي راغب حيدر بسرد تاريخي يرصد انتشار الشيعة في جبيل وكسروان، منذ العهد المملوكي مروراً بالحقبتين المعنية والشهابية فعهد القائمّقاميتين والمتصرفية، وصولاً إلى الانتداب الفرنسي فالاستقلال. ويلقي الضوء على تحولهم من أكثرية معتدّ بها إلى أقلية فاعلة، قبل أن يهمّش دورهم بعد إعلان دولة لبنان الكبير. كذلك يقدم مسحاً تاريخياً ميدانياً وصفياً للوجود الشيعي في المنطقة، قديماً وحديثاً. ويسلط الضوء على التجليات المؤسساتية المختلفة لهذا الوجود، من أوقاف وقضاء وهيئات اجتماعية واقتصادية وخيرية وإنمائية وغيرها. وتجدر الاشادة إلى كون الفهارس والوثائق تحتل أكثر من نصف حجم الكتاب.
قد لا يقدّم «المسلمون الشيعة في جبيل وكسروان» جديداً في التأريخ لتلك المنطقة، لكنه يسلّط الضوء على الطائفة الشيعية، مؤكداً على رسوخها وقِدَم سُكناها في مختلف أرجاء جبل لبنان. هكذا نقرأ تاريخ الشيعة من خلال الحملات التي شنها المماليك عليهم إبّان حروبهم مع الصليبيين، بتهمة عمالة هؤلاء الشيعة للغزاة، ومن هنا تعرّضهم للتهجير من جبل لبنان بعد هزيمتهم عام 1305، ونزوحهم إلى المناطق المجاورة. الا أن الوجود الشيعي سيعود إلى الظهور مع بروز مشايخ الحماديّة، نسبةً إلى حمادة العجمي، الأمير الكوفي النشأة الذي سيستوطن المنطقة عاقداً أحلافه مع المماليك، وباسطاً حمايته على أقرانه الشيعة الذين “سيذوبون” في هذه الزعامة الإقطاعية القوية إلى درجة إطلاق اسم آل حمادة على كل شيعي في جبل لبنان!
ومن خلال زعامة آل حمادة أواخر العهد المملوكي، وما تلاه من حكم عثماني، عبر الأمراء المعنيين والشهابيين، سيشهد النفوذ الشيعي مدّاً وجزراً من خلال تشابك المصالح وتصادمها بين مراكز النفوذ في الجبل. وقد تفاوت هذا النفوذ مع تبدّل تلك المصالح بين والٍ عثماني وآخر، وبين زعيم وآخر، وهذه التبدلات كانت السمة الغالبة على العلاقات السياسية في تلك المنطقة عامة، وضريبة لسياسة التسامح العثماني مع الأقليّات الدينية والعرقية رغم ما تركّز في الأذهان عن تسلّط ذاك العهد وقسوته.
ويكشف كتاب علي راغب حيدر فصول القسوة، والتناحر الدموي، بين مشايخ جبل لبنان وزعاماته. هذا التناحر ستغذّيه النزعة الطائفية التي كانت تتوارى تحت الرماد لسنوات طويلة، حتى تنبشها الظروف السياسية بين حين وآخر. وهو ما يعيدنا إلى السؤال الكبير: هل ما كان يجري من صراعات طائفية هو صراعات مذهبية أم مجرّد صراع عصبيات بين زعامات عشائرية بحسب ما يقول البريطاني ريتشارد إدوارد؟ وهل ما يردّده المؤلف عن حقيقة التعايش الطائفي، حقيقة تاريخية مؤكّدة... أم مجرّد رواسب من كليشهات الصيغة اللبنانية كما قدّمتها الأدبيّات الرسمية وما تبعها؟
مهما يكن من أمر، لا يمكننا سوى أن نلمس في الكتاب ما يدعّم رؤية التعايش تلك، عبر ما قام به عقلاء طوائف جبل لبنان، وبالتحديد دور البطريركية المارونية عبر البطريرك بولس مسعد في لجم تداعيات أحداث عام 1860، وإبطال مفاعيل التضليل المذهبي الذي مارسه طانيوس شاهين إذ برر غاراته على قرى الشيعة بأن ادّعى تلقّي الدعم من البطريركية.
إلا أن هذه الصيغة سرعان ما ستتهاوى عند تصادم مصالح الزعامات وتنازع رجالاتها، وسيكون على عوام الطوائف أن يدفعوا الثمن ويعانوا التنكيل والقتل والتهجير، فيما يبرز العامل الخارجي لاعباً أساسياً وراسماً للمصائر.
نلاحظ أن المؤلف لا يقول كلمته الخاصة، بوضوح، في صفحات الكتاب... ربّما هو يعوّل على تفاعل القارئ وتحليله، وهو أمر غير كاف، خصوصاً أنّ القارئ قد يضلّ طريقه بسبب أحكامه الجاهزة وأفكاره المغلوطة أو حتّى جهله. هذا فضلاً عن أنّ الباحث لم يبذل جهداً للتعويض عن ذاك النقص في تاريخ الشيعة الذي يفتقد حلقات عدة ضائعة، من خلال التحليل والاستنتاج. بدت العلاقة بين مراكز القوى، في كتابه، غير واضحة، ودوافع السياسيين غير مفهومة في الكثير من الأحيان.
ومع ذلك، يبقى “المسلمون الشيعة في كسروان وجبيل”، مرجعاً جديراً بالاهتمام، إذ يقوم على جهد بحثي واضح، عبر استناده إلى مئات الوثائق الرسمية والمؤسساتية والشخصية. وقد اعتمد المؤلف بشكل أساسي على موجودات أرشيف البطريركية المارونية، في إماطته اللثام عن تلك الصفحات المنسية، مبرزاً فكرة التعايش بين الطوائف آنذاك في جبل لبنان.
ولعلّ الرسالة الأهمّ التي ينطوي عليها الكتاب، هي أنّ معظم الطوائف اللبنانية دفعت ثمناً باهظاً مرتين: من خلال الظلم الذي ألحقته بها زعاماتها أولاً، ثم عندما راحت تكفّر عن الأخطاء السياسية لتلك الزعامات!