strong> محمد خير
«الكفيل» هو وظيفة ابتكرتها دول الخليج للسيطرة على العمالة الأجنبية الوافدة إليها. إلا أن مضمون الوظيفة لا يتّفق مع اسمها، فصاحبها لا يكفل العامل الوافد بقدر ما يسيطر عليه، ويحتفظ بجواز سفره، ويعدّ مسؤولاً عنه قانونياً، ويستطيع ترحيله في أي لحظة. وفي ظلّ تلك الشروط، يمكن فهم اقتصار هذه الوظيفة على عددّ محدود من دول العالم، ويمكن استنتاج أن الكفيل لا يمارس «مهامه» إلا تجاه عمالة الجنسيات العربية. لكن كفيلاً من نوع آخر، يمارس نشاطه بحرّية في العالم العربي كلّه لا في خليجه فقط. إنه يمارس الدور الأخطر... هو «الكفيل الإعلامي» الذي يتحدّث عنه الكاتب المصري الأميركي مأمون فندي، مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن. وذلك في كتابه الجديد:Uncivil War of Words Media and Politics in the Arab World، أو «حرب همجية، الإعلام والسياسة في العالم العربي»، وإن كان الكاتب المصري البريطاني عادل درويش قد فضّل في تناوله للكتاب ترجمة كلمة «uncivil» إلى معناها الحرفي «لا مدنية» بدلاً من «همجية» التي اختارها موقع «تقرير واشنطن» في عرضه للكتاب... الأنظمة العربية برمتها تفتقر إلى قيم المدنية وإن إدّعت استيعابها، ويتبعها في ذلك الإعلام العربي، وإن كان يدّعي العكس. هذا ما يطرحه الكاتب من أفكار، وهي تعدّ تلخيصاً وإعادة صياغة لما يعرفه كل متابع للإعلام العربي في السنوات الأخيرة...
إلا أن الصراعات الفضائية عندنا، ليست صراعات مهنية، والتلفزيونات لا تتنافس على المعلومات، إنما على السيطرة على عقول المشاهدين بالمفهوم الأيديولوجي. لذا، غالباً ما تأتي لغة الخطاب المتبادلة بين الفضائيات العربية، الحكومية منها والخاصة، أقرب إلى لغة «الردح» في الحواري الشعبية منها إلى خطاب إعلامي.
وبهذا المعنى، فإن الإعلام العربي لم يتخط بعد زمن «إذاعة صوت العرب»، والفارق بين معظم هذه التلفزيونات وبين أحمد سعيد في الستينيات، يتلخص في أن سعيد كان أكثر كفاءة. على كل، ما زالت «صوت العرب» النموذج المحتذى لتلك لفضائيات، حتى وإن أقنعت الكثيرين بالعكس، كما يقول المؤلف. وإن كان المشاهد لن يحتاج كثيراً إلى كتاب فندي ليراقب خلافات الدول التي تختفي وراء الفضائيات. حتى أهم الفضائيات وأكثرها «مهنية» مثل «الجزيرة» و«العربية»، تخضع أكثر من غيرها لسيطرة الكفيل: رأس مال لا محدود، يُنفق بلا حساب، من قبل دول «تكفل» المحطات العربية. كل ذلك من أجل الدفاع عن هذه الدول أو تلميع صورتها أو الهجوم على أعدائها، أو حتى «استبعادها» من «الأخبار». وهو هدف غريب لكنه تحقق مع «الجزيرة» وكفيلتها حكومة قطر، إذ غالباً ما تتعامل «الجزيرة» وكأن «قطر» غير موجودة في العالم. يلاحظ فندي أن نظام الكفالة الإعلامية هو السبب وراء الهرم الاقتصادي المقلوب، في ما يختصّ بإدارة الفضائيات العربية كمشروعات خاصة من المفترض أن تحقق أرباحاً لمالكيها. كم تجني سنوياً؟ هنا المفاجأة: لا تزيد عائدات هذه الفضائيات، حتى الإخبارية، عن 3 مليارات دولار، بينما تتكلف سنوياً حوالي 15 مليار دولار. هذا الوضع العجيب لا يمكن أن تعثر عليه إلا في العالم العربي. ليس ذلك فقط، بل إن الإنفاق السنوي يزداد تدريجياً بدلاً من أن يقلّ، في ظل غياب آليات محاسبة شعبية، ومفاهيم سياسية تكرّس ثروة الأمم باعتبارها ملكاً للعائلات الحاكمة لا للشعوب. هكذا يمكن فهم سيطرة البرامج الحوارية «القتالية» المنتشرة في معظم الفضائيات العربية... تلك الحلقات التي يكاد يضرب فيها السياسيون بعضهم بعضاً كأنهم في برنامج أميركي رخيص لالمراهقين. ومن هنا، يمكن الاستنتاج أن الخلافات الأيديولوجية، أو التي تمثل أنها أيديولجية لتخفي طابعها العرقي والقبلي، هي وقود تلك المحطات. إذ تملأ ساعات البث لمحطات لا تبحث وراء المعلومة، بل تعيد تعبئة أفكار وتبثّها إلى مشاهد مقتنع بها أصلاً. والأهم من ذلك أنها لا تبحث غالباً عن المشاهد «الآخر»، المختلف عنها، بل ترفضه. هي لا تفعل سوى «وضع يدها على الممتلكات العامة»، أي الأثير المتاح للجميع، ثم لا تضيف إلى معارف المشاهد حرفاً، إنما ترسخ قناعاته وتزيدها عنفاً!