دائماً ما كان يتمّ تقديم الكاتب الألماني غونتر غراس (1927-2015) بكونه متعدد التخصصات الكتابيّة، إذ هو روائيّ، وشاعر، ورسّام، وكاتب مسرحيّ، ونحّات، ولكنّ القراءة المتمعّنة لكتاباته تُقصي هذه التصنيفات الفرعيّة بحيث يتبقّى جوهر الكتابة الأصليّ، أي الكتابة العصيّة على التصنيف. تبدو كموشور يعكس ألوان الطيف الكتابيّ جميعها. غراس الذي رحل أمس في أحد مستشفيات لوبيك (شمال ألمانيا)، شدّد دوماً على أنّه يمقت تصنيف كتاباته، ويعتبرها شأناً خاصاً بالناشرين وأصحاب المكتبات، فـ«التمييز بين الكتب السرديّة وغير السرديّة محض هراء». تتداخل الفنون والأجناس الأدبيّة على تباينها في كتب غراس الذي يصرّ دوماً على تصميم أغلفته بنفسه، عدا عن إدراج رسومات في كلّ كتاب، إذ نجد فيها الحوار متجاوراً مع الرسم، الاعترافات السير ــ ذاتيّة مع التأريخ الصارم، والشعر مع الرسائل الشخصيّة؛ لا من أجل البهرجة أو التفرّد، بل ليحاول عكس صورة الحياة الفعليّة على الورق.
برز اسم غراس بعد صدور روايته الأولى «طبل الصفيح» (1959 ــ نقلت إلى الشاشة الكبيرة بتوقيع المخرج فولكر شلوندورف عام 1979) التي كانت الجزء الأول مما اصطُلح على تسميتها «ثلاثيّة داينتسيغ» وهي: «طبل الصفيح» (1959)، «القط والفأر» (1961)، «أعوام الكلب» (1963). آنذاك، كان قرع الطبلة تلك بهدف إزعاج العقليّة الألمانيّة السائدة بعد الحرب، ولفت الانتباه إلى الجانب المُتجاهَل والمخفيّ من التاريخ الألمانيّ: الحقبة النازيّة التي رسمت فعلياً تاريخ ألمانيا بين الحربين العالميّتين. أثار صدور الرواية الأولى جدلاً واسعاً في ألمانيا، وصل إلى حدّ منع الرواية وإقصائها ومهاجمة كاتبها بذريعة كونها بورنوغرافيّة. ولكنّ السبب الفعليّ كان أنّ هذه الثلاثيّة الروائيّة كانت أول مواجهة شديدة الصراحة بشأن الماضي الألمانيّ الذي كان التعامل معه مقتصراً على التجاهل أو التناسي. استُعيدت هذه الجلبة بعد اعتراف غراس قبل صدور سيرته الذاتية «تقشير البصل» (2006) بأنّه خدم في قوات SS النازيّة في الحرب العالميّة الثانية التي كانت نخبة القوّة الأمنيّة التابعة لحزب هتلر. انتهزت شخصيّات ألمانيّة سياسيّة وثقافيّة كثيرة الفرصة لمعاودة مهاجمة غراس، لكن الآن بوصفه «منافقاً»، ووصلت إلى حد المطالبة بسحب جائزة «نوبل» منه التي نالها عام 1999، وكانت إحدى المناسبات النادرة التي كان فيها منح الجائزة قد أرضى الجميع، من دون أن يثير الضجيج المعتاد كل عام. أبرز سمات الكاتب الذي ولد عام 1927 في مدينة داينتسيغ، وحارب مع القوات النازيّة في الحرب العالمية الثانية، قبل اعتقاله كأسير حرب عند الأميركيين عام 1945، ثم عمله في منجم كلسيّ ودراسته النحت في دوسلدورف وبرلين، كانت التمرّد ومحاولة رسم صورةٍ تناقض الروايات السائدة. كان أحد العناصر الأساسيّة في «جماعة 47» الأدبيّة الألمانيّة إلى جانب هاينرش بُل، التي كانت تسعى إلى تطوير أسلوب أدبيّ يعارض ويناقض الأسلوب المعقّد الذي كان يتّسم به الأدب الألمانيّ قبل الحقبة النازيّة. تابع تمرّده حتى بعد صدور ثلاثيّته الروائيّة الأبرز ليُصدر كتابه «قرني» (1999) الذي رسم فيه ملامح قرن كامل (1900-1999) في موزاييك أدبيّ التقط فيه سمات كلّ عامٍ بمفرده ليصوّر تطوّر الشخصيّة الألمانيّة على مدى السنوات، وخاصة بوصفها «ضحية» في الحرب العالمية الثانية.

روايته «طبل الصفيح»
كشفت الجانب المُتجاهَل والمخفيّ من ألمانيا النازية

ثم كانت أشدّ المعارك شراسةً في نهاية الثمانينيات حين كان من الشخصيات النادرة التي نظّرت ودعت إلى عدم التوحّد بين شطري ألمانيا كي لا يُسحق تفرّد كل شطرٍ على حدة من جهة، عدا أنّ «الدولة الألمانيّة الموحّدة ستستكمل بالضرورة دورها كدولة حرب»، ليختتم حياته بقصيدة شهيرة انتقد فيها إسرائيل عام 2006 بشأن تآمرها على إيران وبرنامجها النوويّ، فاعتبرته الحكومة الإسرائيليّة شخصيّة غير مرغوب فيها، حتى بعد تفسيره لتلك الانتقادات بوصفها «موجَّهةً إلى الحكومة الإسرائيليّة لا إلى الشعب». الكاتب اليساري الذي أثار الكثير من الجدل بتصريحاته ومواقفه، أكّد دوماً على أنّه كان كذّاباً كبيراً في طفولته، وأنّ كتاباته تتمّات لكذب ذلك الطفل، فـ«الحقيقة مملة جداً، ولذا نبتكر الأكاذيب». كانت هذه «الأكاذيب» ذاتها، إلى جانب طبل الصفيح، هي ما تسبّب في كشف «الوجه المنسيّ للتاريخ»، بحسب الأكاديميّة السويديّة عند منحه «نوبل». الابتكار والإزعاج إلى جانب موشورٍ فنيّ عصيّ على التصنيف... هذا ما يحتاج إليه المرء ليكون غونتر غراس.




عن فلسطين وإيران وإسرائيل

في موازاة أعماله الروائية وشهرتها، أحدثت مواقف غونتر غراس السياسية صخباً عالمياً، أبرزها تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي. الروائي الممنوع من دخول «إسرائيل» انتقد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وعارض الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. أما مواقفه المباشرة من الاحتلال الإسرائيلي، فكانت من خلال قصيدة «بطل من أيامنا»، امتدح فيها الخبير النووي موردخاي فعنونو، الذي كشف تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي السري عام 1986. قصيدة دفعت «الرابطة العبرية للكتاب في إسرائيل»، إلى دعوة المثقفين في العالم لمقاطعة غراس. عام 2004، زار اليمن للمشاركة في «ملتقى الرواية العربية الألمانية» في صنعاء، بعدما عرف بإعجابه وتثمينه للثقافة اليمنية. أقسى الانتقادات التي تلقاها، جاءت تهجماً على مذكراته «تقشير البصل» التي صدرت بالألمانية عام 2006. مذكرات تضمّنت اعترافات خطيرة، اعتبرها بعضهم مخزية، لا تليق بكاتب يساري مثله. وفيها استعاد غراس مرحلة مبكرة من حياته تتعلّق بانتسابه إلى الشبيبة النازية وإعجابه بهتلر، إلى درجة التقديس. أما عام 2012، فأقامت قصيدته النثرية «ما ينبغي قوله» المنشورة في صحيفة Süddeutsche Zeitung الألمانية الدنيا في إسرائيل. جاءت القصيدة على شكل مرافعة ضدّ إسرائيل التي تدّعي «الحق في مهاجمة إيران»، ما يشكل خطراً على شعب كامل معرّض للإبادة، بسبب تهمة غير مؤكّدة. كما دعا الشعب الألماني إلى عدم التحوّل إلى شريك في هذه الجريمة المعلنة. أما داخلياً، فقد انتقد عضو «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» الألماني المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وخصوصاً في التعامل مع قضية تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على ألمانيا.