رحل أمس إدواردو غاليانو (1940-2015)، من دون أن يكمل أرشفة التاريخ من الضفّة المضادة. لطالما عمل الكاتب الأوروغوياني على هتك وتفنيد وتشريح التاريخ الرسمي للبشرية الذي اعتبره مزوَّراً، فأنشأ مدوّنته الخاصة، في خلطة سحريّة تميط اللثام عمّا هو مخبوء، وإذا به يعيد الاعتبار إلى شخصيات مهمّشة، ووقائع مهملة، وحكايات من الشوارع الخلفيّة للحياة. هكذا يرصد غاليانو بعدسة مقرّبة وجوهاً وأحداثاً واعترافات عن الحب، والموسيقى، والموت، والكتب، والمجازر، والديكتاتوريات...
عالم يتأرجح من عصر الكهوف إلى اليوم، كما لو أنه شاشة عرض في قاعة مظلمة تبث أرشيفاً سريّاً عن محاولات "سرقة الذاكرة". ما يفعله صاحب "أفواه الزمن" هو تشريح واقع مثقل بالظلمات والعار، وتعرية الغزاة والصيارفة والأباطرة والقوى المهيمنة في العالم. استعادة الذاكرة إذاً، تبدأ من سقوط غرناطة (2 كانون الثاني 1492)، وفقاً لما فعله في كتابه" أبناء الأيام"، معتبراً أن هذا التاريخ هو بداية انتصار محاكم التفتيش المقدّسة، في متواليات سردية هي مزيج من الشاعرية والكشف والمفارقة.
ولكن أين نضع هذه المدوّنة الضخمة، ضمن أجناس الكتابة؟ غاليانو ليس مؤرخاً جمالياً وحسب، إنما هو عالم اجتماع، وحكّاء وساخر، لا يتورّع عن اقتحام أكثر الأسئلة إلحاحاً بلا مواربة، في عالم يتحوّل تدريجاً إلى "ثكنة عسكرية هائلة، ومستشفى للمجانين". في كتابه الآخر "مرايا: ما يشبه تاريخاً للعالم" يرسم خرائط أكثر وضوحاً في توثيق تاريخ البشرية، ناسفاً التصورات التي راكمتها الثقافة الأوروبية، بسطوة القوة، وخرافة تفوّق الجنس الأبيض. لسنا أمام مؤرخ إذاً، بل روائي يحيل الزمن الواقعي إلى مرايا متجاورة، تفكّك التاريخ المزيّف، لتكتب حيوات، كانت مدفونة بدمغة الأرشيف الرسمي. التاريخ هنا ليس خطيّاً، إنما يتأرجح، أو مثلما يذكر غاليانو "التاريخ لعبة نرد"، وهو بذلك لا يتردد في إماطة اللثام عن المحرّمات والتابوهات وأسرار الطغيان. مدوّنة مضادة، أتت في هجاء أوروبا وأميركا، ومحاولتهما تزوير التاريخ، وإنكار إرث العالم الآخر. في توصيفه للحضارة العربية في الأندلس، يستعيد صورة ابن رشد، وأنوار قرطبة، والتسامح الديني، وترجمة العلوم، إلى أن جاء "جنود يسوع" ليطردوا المسلمين ويستولوا على الغنائم. هكذا سيفعل أحفاد كريستوف كولومبس بالهنود الحمر "الكائنات البهيمية التي تجهل الوصايا العشر". لكن أنبياء المايا أعلنوا زمن الإذلال بقولهم: "سيأتون ليعلّموا الخوف. سيأتون لإخصاء الشمس". الغزاة من جهتهم تعلّموا التسامح، فالبطاطا التي كانت محرّمة في أوروبا، باعتبارها نبتاً شيطانياً، نالت شرعيتها لاحقاً، لأنّها أنقذت أوروبا في المجاعات، وكانت الفتوى المضادة: "إذا كانت البطاطا ليست من أمور الشيطان، فلماذا لم تُذكر في الكتاب المقدّس؟".
عدا "الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية"، و"ذاكرة النار"، و"كتاب المعانقات"، و"أفواه الزمن"، أنجز غاليانو كتاباً فريداً ومدهشاً في نوعه، هو" كرة القدم في الشمس والظل" انطلاقاً من فكرة "أنا ألعب إذاً أنا موجود". ولأن صاحب "ذاكرة النار" لم يحقق أحلامه بقدميه، فكّر أن يحققها بيديه، أن يكتب عن هذه الكرة التي اخترعها الصينيون قبل قرون، مقتفياً أثر عشرات اللاعبين الحزانى بعد أن ابتعد عنهم صدى التصفيق في الملاعب، هؤلاء الذين انتقلوا من الأزقة الفقيرة إلى أضواء الاستادات، مراهناً على "وقح مستهتر يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرّمة"، و"احتفال للعيون التي تنظر بسعادة للجسد الذي يلعب".
رحل حارس الذاكرة المضادة، وأعتى مناهضي العولمة وتسليع التاريخ "فقبل أن يُمزَّق الكوكب إلى مرايا متشظية، كانت الحياة تبدو مثل آثار طيور".