أول من أمس، انطلقت الدورة 11 من مهرجان «شاشات الواقع» في «متروبوليس أمبير صوفيل» بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في لبنان»، لتقدّم بانوراما عن المشهد الوثائقي في العالم، والأفلام التي نالت التتويجات والجوائز في الكثير من المهرجانات. الافتتاح مساء الأحد كان بوثائقي «مدرسة بابل» (2013 ــ ساعة و29 د) للفرنسية جولي برتوتشيللي الذي رشح لجائزة «سيزار» عن أفضل وثائقي لعام 2015. في شريطها، تصوّر المخرجة أحد الصفوف المخصّصة للطلاب المهاجرين في المدارس الفرنسية.
على مدى فصل دراسي كامل، تتبعت رحلة هؤلاء الطلاب الذين وفدوا حديثاً إلى فرنسا من مختلف الجنسيات والأعمار، وصراعهم للتأقلم، وتعلم اللغة الفرنسية التي تؤهلهم للاندماج في الصفوف العادية. عبر أسلوب حميمي في التصوير والإخراج يركز على تعابير الوجه وعفوية الحوارات والأسئلة، تتوغل المخرجة في حياة هؤلاء المراهقين، وتساؤلاتهم حول حياتهم المقبلة في فرنسا حيث سيكون عليهم التخلي عن لغتهم الأم ليتكلموا بأخرى، ويتماهوا مع هوية هذه اللغة الجديدة. من خلال الخصوصية التي تمثلها حالة كل طالب، ترصد المخرجة أزمة الهوية المزدوجة بين جدران غرفة الصف الصغيرة، والصراعات والتحولات التي تسبق ما يصفه بعضهم بالولادة الجديدة التي لا تخلو من ألم فراق اللغة الأم ووداع الحياة الأخرى التي عاشها هؤلاء قبل قدومهم إلى فرنسا. انطلاقاً من هذه الرؤية الحميمية التفصيلية، تطرح أزمة المهاجرين في فرنسا، حيث مجتمع المدرسة المصغر ليس سوى مرآة للمجتمع الفرنسي، ونظرته إلى هؤلاء الغرباء الوافدين إليه. النظام التعليمي أيضاً يطرح الجدل حول أسلوب دمج المهاجرين في المدارس التي تعدّ بداية تحولهم إلى مواطنين فرنسيين، والمعطيات التي تشكل هذه الهوية. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى دراسة قدمها أحد النوّاب في عهد ساركوزي قبل حوالى عشر سنوات ربطت بين «تعدد اللغات والانحراف»، وهدفت إلى منع الأهل المهاجرين من التكلم مع أطفالهم بلغتهم الأم حتى في البيت. وأمس، عُرض أحد الأفلام المنتظرة ضمن المهرجان وهو «عشرون ألف يوم على الأرض» (97 د ــ 2014) الحائز جائزة افضل إخراج في «مهرجان سندانس». يصوّر العمل 24 ساعة متخيّلة من حياة الموسيقي الأوسترالي الشهير نيك كايف. عنوان الشريط يقصد به عدد الأيام التي عاشها كايف حتى الآن على الأرض. يحمل الفيلم توقيع البريطانيين لاين فورسيث وجاين بولارد اللذين اشتهرا بأسلوبهما التجريبي في الإخراج واهتمامهما بالموسيقى وإعادة ابتكار محطاتها التاريخية. الفيلم الذي تعاون المخرجان مع كايف على كتابته، يمزج بين سيرة كايف المهنية والشخصية وأعماله، ليعيد تركيب أجزاء حياة الموسيقي الشهير، والهواجس التي تتنازعه وقد تركت أثرها في تكوين موسيقاه.

في «بيروت البلقان»،
يبحث أحمد في مدينة سراييفو عن معالم العاصمة اللبنانية
كذلك يشرح الشريط العلاقات المهمة في حياة كايف، وتعاونه الموسيقي مع وارن إليس، وصداقته بالممثل راي وينستون وبليكسا بارغلد، أحد الأعضاء السابقين في فرقة Nick Cave and the Bad Seeds بالإضافة إلى المغنية كيلي مينوغ. ومن لبنان، يعرض «بيروت البلقان» (16/4 ــ 53 د ــ 2015) لنيكولا خوري. يتتبع الأخير حياة الشاب اللبناني أحمد الذي يقرر مع عائلته الهجرة إلى البوسنة والهرسك بلد زوجته حيث يبحث في مدينة سراييفو عن بيروت كما عرفها من حكايات أبيه التي فقدت في بيروت اليوم. قد تكون نقطة انطلاق الشريط مبتكرة عبر التماهي الذي يطرحه المخرج بين تاريخ مدينتين عانت كلتاهما من الحرب الأهلية.
منذ البداية، تبرز اللغة السينمائية المبتكرة التي تتميز بجماليتها الشاعرية الخاصة، راصدةً أدق التفاصيل المعبرة، كما انعكاسات صور المارة على زجاج إحدى الواجهات في سراييفو يليها انعكاس صورة أحمد المهاجر على الزجاج في لقطة ترمز إلى بحثه المستمر عن هويته في هذه المدينة الغريبة. تفاصيل أخرى تتسم بالطرافة والعفوية تتخلل الشريط مثل لقطة القط الذي يدخل حقيبة السفر بعد وصولهما إلى سراييفو كأنما هو أيضاً يريد العودة إلى بيروت... كلها مهندسة بجمالية بصرية ملفتة. غير أن الحوار والسرد الروائي لا يتسمان بحس الابتكار نفسه التي تعكسه اللغة السينمائية. يبدو الحوار أحياناً شديد التبسيط في تصويره للأزمة اللبنانية، فيستعيد الكليشيهات المعتادة عن المدينة المثالية والفاضلة الأقرب إلى جنة الله على الأرض التي كانتها بيروت قبل الحرب الأهلية. كأنّ الأخيرة هي لعنة سببها كيد الحساد، ولم يقدها أهل البلد الواحد الذين أحبوا بعضهم بعضاً إلى درجة الذبح.
أما «مسكون» (14/4 ـــ112 د ـــ2014) للمخرجة والشاعرة السورية لواء يازجي، فيتتبع رحلة نزوح تسعة أشخاص داخل سوريا إلى لبنان. تشرح المخرجة علاقتهم مع هذا المكان الغريب الذي وفدوا إليه وذلك الذي اضطروا لهجره على عجل بكل الذكريات المرتبطة به. عبر تصوير أبسط التفاصيل اليومية، ترصد وجع الانفصال والتشتت الذي يعيشه النازحون السوريون حيث المكان المفقود هو من يسكنهم. أيضاً، يستعيد المهرجان وثائقي «كوني جميلة واصمتي» (17/4 ــ 115 د ــ 1981) للفرنسية دلفين سيريغ. العمل عبارة عن سلسلة من المقابلات المصورة التي أجرتها المخرجة مع عدد من الممثلات الأميركيات والبريطانيات والفرنسيات المشهورات كجاين فوندا وماريا شنايدر، وتبحث عبرها في المصاعب التي تواجه عمل المرأة في الحقل السينمائي. كذلك، يعرض «السيد ليوس كاراكس» (15/4 ــ 71 د ــ 2014) للفرنسية تيسا لويز سالومي الذي يتناول سيرة السينمائي الفرنسي ليوس كاراكس، صاحب «صبي يلتقي بفتاة» (1984) و«عشاق الجسر الجديد» (1991)، و»بولا أكس» (1999)... أفلام تجسد خصوصية رؤية المخرج التي تتسم بشاعريتها وقسوتها في آن وبشخصياته المتنازعة بين الحلم والدمار الذاتي. يحضر أيضاً المخرج الاميركي المعروف فريدريك وايزمن (1931) في «المتحف الوطني» (18/4 ــ 174 د ـ 2014) الذي يأخذنا في رحلة إلى داخل المتحف الوطني في لندن. عبر لغته السينمائية، يخرج وايزمن اللوحات من جمادها لنراقب من خلال عدسته الحيوات التي عاشتها. من المواعيد البارزة أيضاً فيلم التحريك الوثائقي «محادثة مشغولة بأسلوب التحريك مع نوام تشومسكي» (19/4 ــ 88 د ــ2013) للفرنسي ميشال غوندري. يصوّر الأخير مقابلة مع الألسني والفيلسوف الأميركي ضمن لغة خاصة في جمالية وتعبيرية رسومها المحركة. إلى جانب هذه الأفلام، يعرض أيضاً «إيراني» (20/4 ــ 105 د ـ 2014) لمهران تمادون. نجح السينمائي المناصر للعلمانية في إقناع أربعة رجال دين إيرانيين يناصرون الثورة الإسلاميين في السكن معه لمدة عشرة أيام ليطرح خلالها سؤال: كيف يتعايش معاً أشخاص يملكون رؤيا مختلفة عن العالم؟ هذا الفيلم فقط سيعرض في صالة «مونتاني» إلى جانب فيلم الختام «رسامو الكايكاتور- مشاؤو الديمقراطية» (21/4 ــ 106 د ــ2014) للفرنسية ستيفاني فالواتو.

* مهرجان «شاشات الواقع»: حتى 21 نيسان (أبريل) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (01/204080)، «صالة مونتاني» (المعهد الفرنسي في لبنان)