خليل صويلح
المسافة التي تفصل بين فيلم محمد ملص الروائي الأوّل «أحلام المدينة» (1984) و«باب المقام» (2006) فيلمه الروائي الثالث الذي عاد إلى دائرة الضوء أخيراً بعد عرضه في «مهرجان جبلة الثقافي» (سوريا)، تختصر مسيرة هذه السينمائي السوري (الفيلم إنتاج سوري ـــــ تونسي ـــــ فرنسي). وتبدو المناسبة مؤاتية لاستعادة تطوّر تجربته، على مستوى الشغل البصري والسرد الروائي، تلك التجربة التي تركت بصمة خاصة في تاريخ حركة فنية ما زالت قيد التشكّل. تتجلّى هذه البصمة في اللمسة الشاعرية التي تميّز أفلامه، على رغم أنّها تركّز على حال العنف التي تسيطر على أبطاله وتقود مصائرهم إلى ضفاف أخرى.
الفيلمان ينطلقان من مدينة عند مفصل تاريخي: دمشق في مرحلة الوحدة السورية ـــــ المصرية وزمن جمال عبد الناصر المحتشد بالعزة القومية والأحلام، وحلب عند مفترق سوسيولوجي وثقافي وأخلاقي، ينبئ بعنف مقبل. الفيلم الأخير ينطلق من جريمة شرف: مقتل امرأة متزوجة تشغف بالغناء (أغاني أم كلثوم) بسبب تردّدها على محل «شمس الأصيل» لبيع الشرائط القديمة. ما عزّز شكوك أشقائها في سلوكها الأخلاقي فقرروا أن يضعوا حدّاً لحياتها، غسلاً للشرف.
يسأل محمد ملص (شاركه خالد خليفة في كتابة السيناريو) كيف لمدينة عريقة مثل حلب، اشتهرت تاريخياً بالطرب والغناء، أن تصل إلى هذا الدرك، فيصبح الغناء وراء الأبواب المغلقة شبهة أخلاقية. وسؤاله المضمر هو: إذا كان هذا مصير فرد عادي يحمل رغبات عادية (امرأة هاوية طرب)، فما تُراه يكون مصير الأحلام الجماعيّة بالتطور والحرية والعدالة؟
إيمان (سلوى جميل) ترى أنّ شغفها بأغاني أم كلثوم هو من أبسط حقوقها، وتعيشه بمباركة زوجها سائق التاكسي المولع بنشرات الأخبار. خطّان متوازيان يحددان مسار السرد: الاهتمام بجمال الروح، ومواكبة الحدث السياسي. كأن ولع إيمان بالأغاني القديمة حنين إلى عصر ذهبي آفل، وانخراط زوجها في التظاهرات التي ترفع صورة عبد الناصر، وجهان لهاجس واحد هو مواجهة الواقع البائس، القاسي.
يفتح الفيلم على لقطة بانورامية لحلب، تكشف عن شعارات متناقضة وبرامج انتخابية مزيفة، وعالم سفلي يختلط فيه بؤس القاع بوحل التخلف الاجتماعي. العم رياض ورداني وأبناؤه يديرون مجموعة مطاعم، أحدها لشواء الدجاج. أكثر من إشارة في الشريط توازي بين تلك المخلوقات الضعيفة ومصير إيمان التي تنتهي ذبحاً على يد شقيقها الجامعي، فيما مسدس عمها يحطّم جهاز التسجيل «طريق الضلال»!
كاميرا ملص تجول في شوارع حلب، كأنما لتحمّل أهلها مسؤولية تلك الجريمة. كأنما لتسأل المدينة: ما سرّ تخلّيها عن تاريخها العريق، لتصبح موئل التطرف والعنف الأعمى؟ حين تتسلّل إيمان لزيارة مطربة قديمة تدعى بديعة كانت مشهورة في حلب، ترافقها أغان استهلاكية رخيصة، تشير الى انحطاط الذائقة الحلبية كجزء من انحطاط أشمل. تلك الزيارة إلى بديعة عجّلت في حتفها، إذ كان شقيقها يراقب تحركاتها، ورأى أنّ دخولها إلى هذا البيت شبهة أخلاقية تبرّر قتلها.
يؤخذ على سيناريو «باب المقام» أحياناً،معالجته «التلفزيونية» لبعض المواقف، مثل التواطؤ العائلي على قتل إيمان. الرسالة وصلت باكراً للمتلقّي، ما قلّل عنصر المفاجأة في حكاية هذا الموت المعلن، المادة الخام في «باب المقام» مثيرة بلا شك، لكنها كانت تحتاج إلى تحرير مونتاجي صارم، لجهة تكثيف الحوار وغربلته، أو لجهة ضبط الأغاني التي بدت عشوائية، لا تخدم الدرامية والحكائية. كان يستحسن الاكتفاء بأغنية «رق الحبيب» لتكون بؤرة الفيلم درامياً، ومحور مشاغله الجمالية.
وتتراءى لنا في الفيلم، بين حين وآخر، انعكاسات مشاهد من «أحلام المدينة»، مثل منظر ارتطام رأس المرأة بالباب المغلق، ومشاهد السوق، ومشاهد البوح... إنّه ولع محمد ملص بالمرايا والأبواب والنوافذ التي تفضي إلى عوالم داخلية، خبيئة، تحتضن حياة النساء وتنبئ بمصائرهنّ. فالفيلم في المآل الأخير يكشف بعنف واقع المرأة السورية والعربية عموماً، إذ تتوارى قسراً وراء القضبان... غارقة في أقصى حالات الظلم والإقصاء.