محمد شعير
كان الجميع يتوقّع رحيله بعد ساعات قليلة من ولادته: الطبيب صرخ عندما رآه بعد يومين من الولادة: «إنه يموت من سوء التغذية». غرقت والدته في غيبوبة عميقة بعد ولادته مباشرة وكان قلبها ضعيفاً لم يتحمّل الحمل ولا الولادة. جدّته هي الوحيدة التي آمنت بأنه سيعيش وسيكبر، فخرجت به من المستشفى وراحت تطعمه كعكاً منقوعاً بالماء.. لكن هذا أيضاً لم ينجح في تحسين حالته، وأخيراً تدخلت ممرضة من قرية مجاورة وصفها بأنّها «نديّة الوجه وجميلة الشعر» فأنقذت حياته، وإن ظلّت الأمراض المجهولة تعذّبه دائماً وتطارده!
إنه انغمار برغمان الذي ولد في كنف عائلة متدينة، رشّحته ليصبح واعظاً في الكنيسة، لكنه اختار المعبد الآخر، الفنّ الأكثر التصاقاً بالحياة... عندما اكتشف السينما، كان وقتها ما زال طفلاً لم يتجاوز السادسة حين ذهب إلى السينما لأول مرة في حياته: «كان فيلماً عن حياة حصان، ربما كان اسمه «الأسود الجميل»، وهو مقتبس من كتاب مشهور». بعد ذلك، أصابته الحمى التي لم يشف منها قط. ففي السينما «ظلال صامتة تلتفت إليّ، فأرى وجوهها الشاحبة، وأسمع أصواتاً غير واضحة تخاطب أكثر أحاسيسي عمقاً وسرية. لقد مضت ستون عاماً ولم يتغير شيء، فالحمى لا تزال هي نفسها». هكذا يعترف برغمان في مذكّراته البديعة «المصباح السحري» التي ترجمها إلى العربية باسل الخطيب وصدرت ضمن «سلسلة الفن السابع» عن المؤسسة العامة للسينما في دمشق. وفي العام نفسه أيضاً، كانت المفاجأة التي لم يتوقعها: «جاء سائق عربة عمتي الثرية في عيد الميلاد محمّلة بالهدايا التي وضعت في الخزانة المخصصة لهدايا العيد» وكان بينها رزمة آثارت اهتمامه على نحو خاص: «كانت بنّية اللون وتحمل صورة هامنغاتن الذي لم يكن يبيع آلات التصوير الفوتغرافي فحسب، بل أيضاً كاميرات سينمائية حقيقية».
حقّقت العمة بهديتها حلم برغمان، يا لها من صدفة باهرة.. يقول: «زرت صديقي الذي يملك آلة عرض سينمائي ومجموعةً من الأفلام، فوضع لي ولصديقتي تبيان فيلماً، وسمح لي أن أدير الجهاز بيدي، فيما أخذ هو يعانق تبيان ويقبلها»!