بلال عبود
في زاروب ضيق يتفرع من منطقة «السان ميشال» في الجنـاح، يلتقي زبـــــــائن أبي عصام، بين يدي المزين الذي لم يعرفوا غيره. «تكر سبحة» الذكريات، وتكثر الحكايا عن بيروت أيام زمان... أيام «الشباب والعز والشقاوة».
محمد شرف بدأ مسيرته قبل خمسين سنة. يؤكد إيمانه الراسخ «بالأسلوب القديم في الحلاقة»، ويكرر: «الحلاقة فن أولاً وثانياً وثالثاً».
مساحة صالون أبي عصام متران مربعان. المحل بلا واجهات زجاجية، وفيه مقعد واحد من الطراز القديم، وعنده مرآة ومجموعة من الأمشاط والمقصات. أما الآلات الكهربائية، كمجفف الشعر، فلا مكان لها في صالونه.
يعشق أبو عصام إجراء نقاشات متنوعة مع زبائنه، ويلفت إلى أنه لا يمكن تعليق صورة لأي زعيم، لأنّ لكل زبون رأياً «ويجب أن نحترم مشاعره». شروط المهنة بسيطة، يلخصها أبو عصام (68 عاماً) بأن «الحلاق هو أهم سياسي في العالم» يسمع من الجميع ويحتفظ برأيه لنفسه كي لا يتحول إلى مصدر فتنة.
يتحسر الرجل الستيني على ما آلت إليه أحوال مهنة الحلاقة في لبنان «لا يبقى الزبون بين يدي المزين سوى دقائق معدودة، وهذه ليست شطارة». يعيد أبو عصام تحديد القوانين والترتيبات: «المزين» هي التسمية الصحيحة والعلمية التي يستخدمها، ويقول إن عليه «أن يأخذ وقته مثل الرسام الذي يرسم لوحته».
زبائن أبي عصام من كبار السن في معظمهم، اعتادوا اعتماد نوع معين من التسريحات التي تحمل تسميتها القديمة كـ«الإنكليزية» و«التجارية» وغيرهما، وهي تسريحات «لا يجيد التفنن بها سوى المعلم شرف»، ولأنه «مزينهم» الخاص منذ عقود، فقد تطورت علاقتهم به لتتعدى إطار «التجارة والخدمات». في صالون أبي عصام الصغير يلتقي الأصدقاء أيضاً، يتناقشون في مواضيع متنوعة، لكن المزين العجوز يذكرهم بعدم التطرق إلى السياسة.
«أبو حيدر»، الحاضر اليومي، لا يمتثل لتعليمات أبي عصام، فهو يعلق بشكل مستمر على الأوضاع السياسية والمستجدات الدولية. يعرض آراءه أمام رواد الصالون الآخرين فيقتنعون بتحليلاته نظراً لخبرته الطويلة وقراءاته الكثيرة.
الصالون رغم ضيق مساحته تحول إلى ملتقى دائم لمجموعة من الرجال الذين تربطهم ذكريات كثيرة تعود بهم إلى زمن الشباب والأصدقاء الذين رحلوا. وإلى وقت كانت كلمة «نعيماً» بعد الحلاقة إشارة للانطلاق في مغامرة جديدة في شوارع بيروت الساحرة.
لا تغيب أحوال الحي عمّا يدور من أحاديث مع فنجان القهوة، أو يخبر أحدهم مشكلة يعانيها ويحاول من يقدر تقديم المساعدة له. التعليقات الساخرة والمزاح هو الشكل الأبرز للحوار والنقاشات التي تتحول إلى ما يشبه حفلات الزجل، فكل جواب عليه رد وعلى القافية نفسها بين طرفين لا يرضى أحدهما أن يكون مغلوباً. ويتم الاستشهاد بالأمثال القديمة الكثيرة التي يحفظها زبائن أبو عصام والتي تختصر ثقافات ومناطق مختلفة متعايشة في هذا الحي من فلسطين ولبنان وسوريا ومن الأكراد.