محمد خير
  • يوم صارت القاهرة هوليوود الشرق

    احتفلت «دار الأوبرا» في القاهرة بمرور قرن كامل على إنتاج أول فيلم مصري. عودة إلى مغامرة البدايات، من «ليلى بنت الصحراء» لبهيجة حافظ... إلى «فتاة من فلسطين» لمحمود ذو الفقار

    كيف كان للمتمرّدة بهيجة هانم حافظ أن تعرف أنّ زواجاً ملكياً سيعطّل مشروعها الفني؟ وأنى لها أن تتوقع أن ثلاث تجارب، شخصية وسياسية وتاريخية، ستتقاطع معاً لتقضي على مشروعها بالتأجيل وعدم الاكتمال، وهو الذي كان مجرد حكاية بطلتها «ليلى بنت الصحراء»؟
    الفيلم الذي أخرجته بهيجة عام 1937 أعيد عرضه أخيراً في «مركز الإبداع» في دار الأوبرا المصرية، بين مجموعة منتخبة من الأفلام المصرية النادرة، وذلك لمناسبة مرور مئة عام على إنتاج أول فيلم مصري عام 1907. لكنّ النسخة التي عرضها مركز الإبداع من فيلم بهيجة حافظ، كانت «ليلى البدوية» وهو عنوان النسخة المخفّفة التي عرضت عام 1944، بدلاً من النسخة الأصلية «ليلى بنت الصحراء» التي أنتجتها وأخرجتها بهيجة قبل ذلك بسبع سنوات.
    لم تكن بهيجة إسماعيل حافظ (1908ـــــ1983) مجرّد مخرجة سينمائية في بدايات القرن العشرين، بل رائدة تفوّقت على رائدة أخرى معاصرة لها هي عزيزة أمير. كلٌّ من بهيجة وعزيزة كانت تنتج الأفلام وتخرجها وتمثّل فيها. لكنّ بهيجة تفوقت لأنّها أوّل مؤلفة موسيقى تصويرية للسينما في الشرق. ولا شك في أنّها من رائدات ذلك الفن على مستوى العالم. عُرفت بهيجة في مصر مؤلفة موسيقية. هي الحاصلة على دبلوم التأليف والتلحين الموسيقي من باريس، وتعاقدت معها كبرى شركات الإسطوانات الموسيقية، وعلى رأسها «أوديون»، وذلك قبل أن تتجه إلى السينما لتتولى بطولة فيلم «زينب» لمحمد كريم عام 1930، وتضع أيضاً الموسيقى التصويرية للعمل... ثم أسّست شركتها المستقلة للإنتاج السينمائي «منار»، وأخرجت «الضحايا» في نسخة صامتة عام 1932 ثم ناطقة عام 1935. كان التحوّل الدراماتيكي في مسيرتها عندما قررت استعادة خبرة سلبيّة من حياتها، وإعادة إنتاجها في فيلم سينمائي: كانت بهيجة سليلة الباشاوات وابن خالة رئيس وزارء مصر إسماعيل باشا صدقي. تزوجت، ولما تزل مراهقة، أحد الأمراء الإيرانيين. فشل زواجها فعادت إلى مصر، لكنّها تركت أهلها في الإسكندرية، وشقت طريقها في القاهرة. تعرّفت إلى قصة الشاعرة العربية الجاهلية ليلى بنت لكيز بن مرة الملقّبة بـ«ليلى العفيفة» التي خطفها أمير فارسي، فمنعت نفسها عليه حتى أنقذها ابن عمها البراق بن روحان. وجدت بهيجة في قصة ليلى ما يشبه تجربتها الشخصية، فقررت إنتاج فيلم بعنوان «ليلى بنت الصحراء» وقامت بإخراجه ووضع موسيقاه التصويرية. وكتبت السيناريو بالاشتراك مع زوجها محمود حمدي اعتماداً على الصياغة التي وضعها عادل الغضبان، المشرف آنذاك على دار المعارف. أدت بهيجة دور ليلى، وشاركها البطولة حسين رياض وراقية إبراهيم وعباس فارس. في الفيلم، يقوم كسرى شخصياً بخطف ليلى بمساعدة عمر وزياد اللذين أوهما البراق ابن عم ليلى بأنّ عمه باع ابنته بإرادته. تمتنع ليلى على كسرى وتحاول الجارية جلنار تهريبها لكنها تفشل، ثم يعرف البراق الحقيقة وينطلق لإنقاذ ليلى، ولا ينجح فقط بل يقتل كسرى!
    على أي حال، يقع ما لم يخطر في بال بهيجة حافظ. إذ توافق الأسرة الملكية على زواج الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق والشاه الإيراني رضا بهلوي، فتصبح أحداث الفيلم فجأة غير مناسبة للعلاقات بين الفرس والمصريين. هكذا تطلب الحكومة المصرية وقف الفيلم، وتنال بهيجة تعويضاً مادياً لا يسمن من جوع، ما يحكم بالإعدام على شركتها «منار» التي تتوقف عن الإنتاج. ثم تقوم بهيجة بصنع نسخة جديدة من الفيلم بعنوان «ليلى البدوية» عام 1944، بعد تغيير النهاية، وحذف بعض المشاهد حتى لا يتحمل كسرى كل هذا اللوم. والمفارقة أنّ الأميرة فوزية ما لبثت أن حصلت على الطلاق من الشاه بعد إنتاج نسخة الفيلم المعدّلة بأقل من عام... وعادت إلى مصر كما عادت قبلها بهيجة، وعادت قبلهما بعشرات القرون ليلى بنت كليز. وكان آخر أفلام بهيجة حافظ هو «الزهرة» (1947) الذي شارك فيه لأوّل مرة الفنان وديع الصافي.

    أوّل فيلم سياسي؟

    إلا أنّ حكايات فيلم «لاشين» لم تكن أقل إثارة للجدل. العمل الذي عرضه أيضاً مركز الإبداع في إطار «برنامج الأفلام النادرة»، أُنتج في العام التالي لـ«بنت الصحراء» وبأضخم إنتاج في ذلك الزمان. كان مخرج الفيلم ألمانياً يُدعى فريتز كرامب، بينما كتب السيناريو الإنكليزي ستيفن هيرش، وكتب الحوار الشاعر أحمد رامي: لاشين هو قائد الجيش الرافض لفساد كبير الوزراء، بينما الملك غارق في ملذاته وعلاقاته النسائية. يتم الإيقاع بلاشين وسجنه، فيثور الشعب إلى أن يُفرج عن لاشين. تولى البطولة حسن عزت الذي سافر بعد ذلك إلى هوليوود وعمل في بعض الأفلام الأميركية في الأربعينيات، واستعد الجميع لعرض الفيلم الذي أنتجه استوديو مصر. إلا أنّ السلطات اعترضت على الفيلم قبل عرضه بساعات، بحجة أنّه يحتوي على إشارات إلى الذات الملكية. والغريب أنّ الملك فاروق غرق في العلاقات النسائية بالفعل، لكن بعد ذلك بسنوات. وظل الفيلم مثار خلاف إلى اليوم: هل يعد فيلماً سياسياً بالفعل؟ أم أنّ التشابه بين الواقع وأحداث القصة التي كتبها وأخرجها إنكليزي وألماني هو مجرد صدفة؟
    ثمة أوروبي آخر عرض مركز الإبداع أحد أفلامه، هو الإيطالي ماريو فولبي الذي أخرج عدداً من الأفلام المصرية المبكرة، منها «أنشودة الفؤاد» الذي شاهد فيه جمهور الأوبرا الشيخ زكريا أحمد ممثلاً للمرة الأولى والأخيرة في مشواره الفني، لكنّه أيضاً وضع ألحان الأغنيات التي اعتمدت على كلمات خليل مطران.
    وكان مهرجان «أيام الأفلام النادرة» الذي اعتبر مناسبةً لتأمل مشوار السينما المصرية قد افتتح بفيلم «فتاة من فلسطين» من إخراج وبطولة محمود ذو الفقار أمام سعاد محمد. هذا العمل هو الأول في طرحه القضية الفلسطينية في السينما المصرية، يتناول قصّة محمود، الطيار المصري الذي تسقط طائرته في قرية فلسطينية أثناء حرب 48، ويتم علاجه في بيت كان مركزاً للمقاومة.