strong> خليل صويلح
سوف تصدر عشرات الكتب ومئات المقالات والدراسات التي تجتهد في تحليل ما حدث يوم الخامس من حزيران/ يونيو 1967. الحرب الخاطفة التي شنّتها إسرائيل في ذلك اليوم الصيفي الحار على ثلاث جبهات عربية، ستظل جرحاً مفتوحاً في ذاكرة جيل الستينيات وما تلاه. بين ركام الكتب التي رصدت ردود الفعل العربية على هذه الحرب، ستبقى ثلاثة أعمال، على الأقلّ، في الذاكرة الجماعية العربية هي: قصيدة نزار قباني «هوامش على دفتر النكسة» (1967) ومسرحية سعد الله ونوس «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1969) وكتاب صادق جلال العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968).
البحث الذي كتبه المفكّر السوري قبل أربعين عاماً تقريباً، لا يزال يحتفظ براهنيته إلى اليوم، نظراً إلى العقلانية التي واكبت أطروحاته في منهج نقدي طليق، يفسّر أسباب الهزيمة وكيفية مواجهة المستقبل. فهو على أي حال، أول بحث عربي يستخدم تعبير «الهزيمة» لوصف ما حدث في تلك الحرب بدلاً من عبارة «النكسة» التي كانت دخلت حقل التداول الرسمي والفكري والشعبي بغرض تمويه الحقيقة المفجعة.
يقول صادق جلال العظم في مقدمة الطبعة الجديدة من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي صدر أخيراً عن «دار ممدوح عدوان» (دمشق): «ما زال في الكتاب شيء هام يمكن أن يقوله إلى الأجيال المعاصرة كي تعلم من أية مواقع ومن أية أحداث ومن أي تاريخ قريب، ومن أية إخفاقات جاء الواقع الراهن الذي تعيشه».
هكذا سيجد القارئ اليوم نفسه أمام وليمة باذخة من الشعارات التي كانت رائجة آنذاك، قبل أن تكنسها رياح التاريخ والهزائم اللاحقة من شعار «لن يمروا» و«الكفاح المسلح» وعقلية «ماكو أوامر» وذهنية «ما فيش تعليمات»... إلى الدخول في حقل الخرافة والأوهام لمحو الذاكرة العربية، وتخليصها من عواقب فشل الحلم الناصري. هذه الشعارات يضعها صاحب «ذهنية التحريم» في مختبر نقدي صارم، ويفحص أسبابها العميقة وأبعادها الاجتماعية والسياسية في ظل أنظمة «ثورية» لم تتمكّن من تبرير هزيمتها، فلجأت إلى الأسئلة القدرية واعتبرت الهزيمة المدوّية، مجرد خطأ في التقدير، وعزت النفس متوهمة شعوبها بأن خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب. ويوضح العظم أنّ نزعة إزاحة المسؤولية عن الذات، وإسقاطها على الآخر، هي نزعة متأصلة تدخل في بنيان المجتمع العربي التقليدي... ولا تنفصل عن خصائص الشخصية الاجتماعية التي تربيها البيئة العربية المتوارثة.
هكذا شنّ صاحب «نقد الفكر الديني» هجوماً كاسحاً على خصومه بعدما وصل ببعضهم الشطط إلى اعتبار «الهزيمة» نكبة إلهية. إذ يسوّغ صلاح الدين المنجد الهزيمة في كتابه «أعمدة النكبة» (1967) بقوله: «لقد تخلى العرب عن إيمانهم بالله، فتخلى الله عنهم». ويرى صادق جلال العظم أنّ هذه الأفكار الغيبية تنطوي على منطق تبريري، يضع مسؤولية الهزيمة على الدهر والزمان والطبيعة، فالنكبات على أي حال ليست من صنع البشر.
بعد مرور أربعين عاماً على «هزيمة حزيران» وهزائم أخرى متوالدة، كيف نقرأ اليوم حال الخريطة العربية، وما آلت إليه من تشرذم ومحن جديدة في ضوء ما كتبه صادق جلال العظم؟ هذا المثقف الماركسي الليبرالي، انتبه باكراً إلى أنّ فلسطين ستتحوّل مع الزمن إلى ذكرى... فيما اعتقد آخرون أنّهم على قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم العربي باستعادة الأرض المسلوبة. وها هي «فلسطين التاريخية» تُختزل اليوم إلى جملة سجون صغيرة متجاورة، حسب ما يقول فيصل دراج في شهادته حول «النقد الذاتي للهزيمة». تتجلّى أهمية هذا الكتاب في «اعترافه الواضح بالهزيمة من دون بلاغة أو تدليس»، وبأسلوب سجالي يعرّي ظواهر أساسيّة في التفكير العربي، مثل الجهل بالذات وبالآخر وقراءة المستجدّات بمعايير قديمة. كأن تُشتق التكنولوجيا الحديثة من «الفروسية العربية»، إضافة إلى القدريّة المتجدّدة التي تذيب الوقائع اليومية في ثنائيات الكفر والإيمان والرشاد والضلال والرذيلة والفضيلة وتعزيز القيم العائلية والقبلية وشروط «تنمية التخلّف». ويرى درّاج أن ما يوهم بحراك اجتماعي في العالم العربي، بقصد التمرّد على العجز والهزيمة، هو في حقيقته حراك هامشي ضئيل، بسبب تجانس المنظور السلطوي ومنظور «الشعبوية القدرية» اللذين يختلفان في المضمون ولا يختلفان في البنية. في معظم الحالات «الأول منهما قمعي، وحيد الصوت، لا يعترف بالآخر، والثاني إيماني يقيني يدّعي احتكار الحقيقة المطلقة والغائب في الحالين، هو الواقع المعيش وهذا ما أراد العظم تأكيده». لقد وجدت السلطة المهزومة الحل في إفقار المجتمع ودفنه تحت فواتير يومية قاسية، فيما وجد المجتمع الحل في «ميتافيزيقيا الخلاص النهائي».
كتب صاحب «ما بعد ذهنية التحريم» بحثه في لحظة مأزومة، وكان يعتقد أن تجاوز الأزمة ممكن، لكنّ التحولات اللاحقة أطاحت نافذة الحلم. ولعل ما يبقى صالحاً للتداول حتى اليوم هو التأكيد على دور العقل والإرادة والحرية في تجاوز أسباب الهزيمة ونتائجها.
لكن كيف ينظر الجيل الجديد إلى هزيمة حزيران؟ وما وقع مثل هذه الهزيمة عليه؟
في الطبعة الجديدة من الكتاب، نقع على رأيين، الأول كتبته ديمة ونوس والثاني بتوقيع عمر أبو سعدة. ترى ونوس أنّ التطوّر الخطير الذي طرأ منذ عام 1967، هو أن الدور التنويري للمثقفين العرب كرد ممكن على الهزيمة، تراجع لمصلحة خطاب الحركات الإسلامية الأصولية التي شكّلت البديل الوحيد المتاح للشعوب العربية، تعويضاً عن القمع والممارسات غير الشرعية للأنظمة الشمولية، ما أسهم في تداعي الحياة السياسية والاجتماعية، وفي خنق «آخر حفنة أمل بالتغيير الديموقراطي والإصلاح». كما تشير إلى أهمية مصطلح «النقد الذاتي». هذا المصطلح الذي غاب اليوم لمصلحة «ثقافة التطويع والتدجين وإلغاء مفردة الديموقراطية من المناهج المدرسية. وهو ما سيجر إلى هزائم أخرى متلاحقة». وتصف هذا الجيل بأنه «قرأ عن النقد والنقد الذاتي في كتب القومية العربية، لكنه لم يتعلم يوماً ممارسة هذه الشعارات الرنّانة».
ويلفت عمر أبو سعدة إلى أنّ المفارقة في نقد صادق جلال العظم للهزيمة يتحدّد بعلاقته مع الآخر، واختصار الحياة إلى معركة متواصلة، ليصبح الانتصار على الهزيمة شرطاً وحيداً للعيش: «إنه كتاب عن جيل أرهقته الهزيمة إلى حدّ اختصر معنى حياته كلها بالانتصار على عدو سرق عمره، ولم يترك له الوقت كي يتأمل جمال الحياة بكل بساطتها وتعقيدها».