بيار أبي صعب
لماذا ينتحر الشعراء؟ السؤال تأخذنا إليه بإلحاح جمانة حداد، في كتاب بعنوان «سيجيء الموت وستكون له عيناك» (النهار، الدار العربية للعلوم). تستعرض الشاعرة اللبنانية مسار 150 شاعراً وضعوا حداً لحياتهم، خلال القرن العشرين. ونعيد طرح السؤال، في ذكرى خليل حاوي: لماذا ينتحر الشعراء؟ ما سرّ الرصاصة التي أطلقها على نفسه تيسير سبول؟ ماذا عن ماياكوفسكي؟ لماذا وهب بول تسيلان جسده العصبي النحيل لمياه الـ Seine الباردة؟
اليأس وحده لا يكفي؟ التعب؟ الإحباط العاطفي؟ الاعتراف بالفشل؟ ولا الخوف مما سيأتي... ماذا إذاً؟ ربّما كان العجز عن التفاهم مع العالم الخارجي؟ اسألوا فيرجينيا وولف الغريقة. جرح قديم لا يعود يطاق. يريحنا دائماً، نحن العرب، أن نتمسّك بأهداب اليأس السياسي، أن نعتبر الانتحار استقالة وانسحاباً... رفضاً لتقديم شهادة زور في محكمة التاريخ. لكن ماذا لو مضينا أبعد من الحدث السياسي، في استعادة ذلك اليوم الصيفي المشؤوم الذي دوّى فيه صوت الجفت على بلكون خليل حاوي؟
في قصيدة شهيرة له، بعنوان «الانتحار»، يستوحي عبّاس بيضون من مأساة ماياكوفسكي، انتحاراً من بطولته هو... فعلاً افتراضياً ضاحكاً، في مجموعة «الوقت بجرعات كبيرة» (دار الفارابي). طقس مسرحي يعلن الخروج على الجماعة («الرفاق»)، أو لنقل برولوغ لقصيدة «الأربعون» الشهيرة. الانتحار غالباً رسالة إلى الآخرين. إلى العالم الخارجي. في حالة خليل حاوي تكاد تكون استنتاجاً فلسفياً، الجملة الأخيرة في رحلة يأس بلا قرار؟
«عمّق الحفرة يا حفّار/ عمّقها لقاع بلا قرار...» يكتب في مستهلّ قصيدته «لعازر 1962» التي يتخيّل فيها «انبعاثاً» مشوّهاً ومجهضاً للشخصية المستعارة من الأنجيل... أليعازر عاد إلى الحياة «ميتاً» حسب رؤيا حاوي. صديق يسوع الذي بعثه من الموت في إنجيل يوحنا، بات رمزاً للقيامة المستحيلة، في قصيدة حاوي الاستشرافية التي ستعتبر لاحقاً «قصيدة الهزيمة قبل الهزيمة» بتعبير ريتا عوض. تلك «الحفرة» هي نداء الفراغ، بالنسبة إلى شاعر تشحّ لغته، وتنكمش أوهامه الطوباويّة. أليعازر هو الجثة التي حملها حاوي معه طويلاً، وربّما كان انتحاره محاولة أخيرة للتخلص منها. لعلّه انتحار فلسفي في نهاية المطاف. اعتراف بالعقم الأدبي والسياسي والوجودي. انتحار حاوي مجرّد استقالة من الشعر.