نجوان درويش
عاطف أبو سيف من رموز الأدب الفلسطيني الجديد. في «حصرم الجنة»، روايته الرابعة التي أعيد إصدارها في القاهرة (دار شرقيات)، اللاجئ لم يعد ضحيّة، والبطل تحرّر من مركّبات النقص. نصٌّ يستدعي الذاكرة المدينية التي صارت، بعد «أوسلو»، مهدّدة بحياة المخيّم

لا شكّ في أنّ مرحلة التقطيع الجغرافي وحياة الكانتونات التي تلت حقبة «أوسلو» لها علاقة بندرة النتاج الروائي داخل فلسطين المحتلة الآن. هذا الإنتاج المتعثّر أصلاً بسبب غياب ثقافة المدينة التي عُطّلت عقب الاحتلال عام 1948، بعد سقوط الساحل الفلسطيني، وتدمير ثقافته المدينية على يد المشروع الصهيوني. فالنظريات التي تقدّم الرواية على أنّها إفراز مديني، تبدو في صلب ضعف الرواية الفلسطينية لمصلحة أشكال أخرى من الكتابة، وخصوصاً أنّنا لا نكاد نعثر اليوم في الجغرافيا المتبقّية تحت أقدام الفلسطينيين على «مدينة» بالمعنى الحقيقي للكلمة. ووفق معطيات حقبة الكانتونات و«الأبرتايد»، فإن شحّ النتاج الروائي في الأدب الفلسطيني مدى ستة عقود، مرشّحٌ للتزايد في السنوات المقبلة، بسبب معضلة فقدان المدينة.
ولعلّ هذا الكلام ضروري لتناول رواية «حصرم الجنة» لعاطف أبو سيف التي صدرت طبعتها الثانية أخيراً عن «دار شرقيات» في القاهرة (الطبعة الأولى صدرت عام 2003 عن «المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي»).
في روايته، يقدّم أبو سيف (1973) صورةً عن مدينة يافا و«ثقافة الساحل» المفقودة في ذاكرة أحد أبنائها... وعن «حياة» هذه الذاكرة في أحد مخيمات غزة، حيث وجدت عائلة الكاتب نفسها عقب «النكبة». الرواية تبدو كأنها سيرة ذاتية في مخيم جباليا، من خلال توظيفها حوادث شخصية متطابقة مع حياة الكاتب، لكن من دون أن يصير العمل سيرة ذاتية (شبيه معالجات جيمس جويس للوقائع الشخصية السيرية في رواياته). وهي ترسم أيضاً ملامح لم تكتمل بعد للجيل الأخير من كتّاب الرواية الفلسطينيين.
تستند «حصرم الجنة» المكتوبة في المخيّم إلى ذاكرة مدينية، تحديداً ذاكرة مدينة يافا. وتشكّل الذاكرة هنا حمايةً لصاحبها وتساعده في رؤية ذاته، إذ إنّها تحكي قصة رجل لم يعد يستطيع أن يرى وجهه في المرآة.
وبهذا، يضع أبو سيف الذاكرة المدينية في مواجهة واقع مضطرب، مجروح، في معالجة صلبة للذاكرة باعتبارها معطى مستقبلياً يمكنه أن يَسنُد الواقع عندما يختلّ هذا الأخير. وهو ما تلجأ إليه الشخصية الأساسية في الرواية التي تفارق نموذج البطل السائد في الرواية الفلسطينية، سواء شخصية المناضل أو الضحية، أو حتى الخائن كما أسّس لها إميل حبيبي صاحب «المتشائل» الذي يبدو تأثيره أكبر في مجايلي أبو سيف. عدنية شبلي مثلاً كتبت عن شخصية أب متعاون، فيما شخصيات علاء حليحل تحاول أن تعيش وتتصرف بشكل طبيعي في ظلّ واقع غير طبيعي. والاثنان من أبرز وجوه الأدب الفلسطيني الجديد.
ولعل «الشخصية الطبيعية» أو «العادية» هي من أبرز الملامح التي توحّد الجيل الجديد من كتّاب السرد، ما أوجد أرضية مناسبة لتُهم من نوع أنّهم «الكتّاب الذين أفرزتهم أوسلو» والذين «تخلّوا عن القضايا». وهي تهم شبه جاهزة ولا شيء يضبطها في ظل واقع تخلّى عن نفسه، وكل شيء فيه الآن يتعرض لشكّ مسموم. والأمر ينطبق على «حصرم الجنة»، إذ كنا تابعنا قبل عامين سجالاً صحافياً بين أبو سيف وكاتب آخر من الجيل الذي سبقه، أدرج الرواية ضــــــــمن الكتابة التي تخلت عن القضايا. وهو توصيف مجحف في ما يخص كتابة أبو سيف الذي يطالبه كثيرون بـ«تخلٍّ» أكبر عن «القضايا»، فعمله الأدبي يبدو فلسطيـــــنياً ربما أكثر من اللازم!
الشخصية التي يقدّمها أبو سيف قريبة إلى الشخصية المتفوقة المقبلة على الحياة في روايات جبرا إبراهيم جبرا، ولا يحدّ من اعتدادها أنّها لاجئة محكومة بحياة المخيّم التي نلحظ تحوّلاتها بعد الانتفاضة الأولى وحقبة «أوسلو».
وإن كان جبرا كتب رواياته على خلفية مدن كالقدس في الثلاثينيات والأربعينيات وبغداد الأرستقراطية قبل «الثورة»، وعلاقات البطل وليد مسعود أو جبرا نفسه المطّلع على التيارات الثقافية في «المركز الغربي»، فإن أبو سيف يؤسس روايته على ذاكرة مدينة مفقودة وقصّة أسرة من يافا وحياتها بعد اللجوء في مخيم مغلق ومحاصر في غزة، إلا أنّ المخيّم يبدو مفتوحاً من حيث أفق البطل وعلاقاته وانفتاحه الشخصي والندّي أيضاً مع «المركز الغربي».
في «حصرم الجنة»، يخلّص أبو سيف شخصية بطله اللاجئ من مركّبات النقص، ومن الفخر المرضي الذي غذّته الكتابات الغنائية والشعارات. اللاجئ عند أبو سيف لا يستدعي الشفقة، وليس ضحية وصاحب قضية، إنّما هو نموذج فاعل يعيش حياةً غنيةً ويمارس حريته الجسدية والفكرية، ويتحدث من دون عقد عن جمال أمه كأنثى. وفي هذا السرد المتماسك، واللغة المتأنقة بعض الشيء، حضرت الفلسفة أيضاً، سواء من خلال افتتان بعض الشخصيات بقضايا فلسفية... أو افتتانها بفلسفة الأشياء من حولها. وهو افتتان خطر قد يضعف العمل، إلا أنّه في حالة «حصرم الجنة»، أتى السرد المتماسك وبقية عناصر الرواية للسيطرة على هذا الضعف.
ويلاحظ المتابع للروايات الفلسطينية الشابة التي صدرت في العقد الأخير، أنّ الافتتان بالفلسفة وباللغة الشعرية هما من نقاط الضعف الأساسية في هذه الأعمال التي يُحسب لها أنّها نجت من التقريرية بهذا المنحى. فالافتتان بالفلسفة يظهر انسحاباً من الواقع أكثر منه إخصاباً له. ولعل الافتتان بعرض الفلسفة وتوسّل اللغة «الشعرية» هما من عوارض الكتابة الروائية الشابة في أكثر من بيئة عربية، وليسا أمراً خاصاً بالأدباء الفلسطينيين. ولن ننسى الافتتان بالأسطورة الذي هو ثالث هذه العوارض وربما أكثرها فتكاً!
يذكر أنّ لعاطف أبو سيف ثلاث روايات هي «ظلال في الذاكرة» (1997)، «حكاية ليلة سامر» (2000) و«كرة الثلج» (2001).