محمد خير
لم تعد المصطلحات من نوعية الحملات الصليبية الجديدة، وفسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، وقفاً على جورج بوش الابن أو أسامة بن لادن. لقد أصبح بديهياً اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، أنّ الخلفية الدينية والروحانية للإنسان هي ما يحدّد مصيره وقيمته في نظر الآخرين، سواء كان إفرنجيا في بلاد العرب أو صحراوياً في أوروبا، أو مسلماً بين الهندوس.
نشهد اليوم ذروة مرض أصاب العالم الحديث منذ عقود تتمثّل أعراضه في التدهور المستمر في «الحس الديني»، وهو عنوان كتاب المطران لويجي جوساني الذي توفي قبل عامين. لكنّ «مركز تواصل للنشر» لم يجد أفضل من كتاب هذا الراهب الإيطالي الشهير ليفتتح به قائمة إصداراته في القاهرة قبل أيام، علماً أن «بعض مقولات الكتاب تتشابه وأفكار بعض المفكرين العرب. لكن لا ضير من مراكمة خبرة معرفية في ذلك الموضوع، حتى نرى أنفسنا في ضوء تجارب الآخرين»، كما يقول الناقد وائل فاروق في مقدمة الكتاب. ويضيف أنّ الكتاب «يكسر الصورة النمطية للغرب المنحلّ أخلاقياً أو العلماني المعادي للدين، بل على العكس يوضح أن كبرى الحركات الثقافية الأوروبية هي حركات روحية تحتفي بالحسّ الديني من دون أن توظفه سياسياً».
وقد يكون أهم ما في الكتاب الذي عرّبته سناء فضيل وكميل عيد وصبحي نصري، ذلك التأكيد المستمر أن تربية الإنسان تتطلب التنشئة على الانتباه والملاحظة. هذه التربية ترتبط بتنمية القدرة على تقبّل الآخر، ولا يمكن أن تنشئ إنساناً لعالم أفضل، من دون التركيز على جملة «لا يمكن أن أكون أهلاً لتكوين يقين عنك، إلا بقدر ما أكون متنبّهاً لحياتك».
ينقل المؤلف عن كتاب «تأملات في سلوكيات الحياة» لأليكسي كاريل (1873 ــــ 1944) الكاتب والطبيب الذي التقت أفكاره مع الأطروحات النازيّة حول التنقية العرقية، وهذا ما لا يذكره الكتاب، مقطعاً يقول فيه إنّ الحدود بين الخير والشر في هذا العالم اختفت، وبات العقل يعاني كثيراً بسبب قلّة الملاحظة وكثرة التفكير، بينما طريق الحقيقة هو «كثرة الملاحظة وقلة التفكير». ويستدرك المؤلف أنّ المقصود بالتفكير هنا هو استخدام الجدل في خدمة أهداف إيديولوجية.
من دون ذلك الانتباه، يتغيّر الحس الديني وينتقل من كونه معبّراً عن ارتباط الإنسان بقيم الأديان وأخلاقياتها، إلى انتماء قبلي في مواجهة الآخر، وانسحاق أمام التأويلات اللاهوتية حتى ما يبدو منها متضارباً ومتناقضاً، ما لا يدفعه إلى إلغاء الآخر فحسب، بل إلى إلغاء منطقه الخاص أيضاً.