strong>رنا حايك
  • مبارزة فنيّة في «حي السراسقة» الأرستقراطي

    شارع واحد يفصل بين «فيلا عودة» و«مـتـحف سرسق». في الفيلا نزيل خاص هو المستشرق الفرنسي جورج سير... وفي الطابق الثاني من القصر المواجه ندّه اللدود جورج قرم، أحد أبرز التشكيليين الرواد... عودة إلى زمن المؤسسين في تاريخ الفنّ اللبناني

    وصل جورج سير إلى بيروت عام 1934 واستــقرّ فيها حتى وفاته عام 1964. أتى المدينة مســــتشاراً فنياً في السفارة الفرنسية، فإذا به ينخرط في حياتها مؤسّساً لتيار حداثي ذات طابع محلي. هكذا، تتلمذ على يده جيل من الرسامين الجدد وربطته صداقات بفنّانين أمــــــــــثال عــمر الأنسي ومصطفى فروخ، بـينما تعرّض لانتقاد آخرين وخصوصاً الفنان جورج داود قرم.
    ذات يوم من عام ١٩٥٢، استُفزّ قرم بعد قراءة مقال في جريدة «لوريان» الفرنكوفونيّة، نسبَ لسير الفضل في «فتح باب الحداثة للبنانيين». في تلك الفترة، كانت المشاعر الوطنية بلغت ذروتها، فردّ قرم الذي طالما أخذ على النقاد اهتمامهم بالفنّان الوافد على حساب المحلي، بأنّ «الظهور العجائبي لسير لم يبشّر بالحداثة التي بدأها لبنانيّون منذ ثلاثين عاماً أي قبل مجيئه إلى لبنان». هذه المشادّة التي نشبت بين الفنّانيْن منذ 55 عاماً لم يبقَ منها اليوم سوى بعض الإشارات في حواشي الكتب... وآثار تنافس في مرحلة تأسيسيّة خصبة، عاد بالفائدة على الفنّ التصويري في لبنان وأدّى دوراً في تطوره. واليوم، شاءت المصادفات أن يلتقي الندّان اللدودان مجدداً في «حي السراسقة» الأرستقراطي في بيروت، في مواجهة فنيّة تذكّر بالأزمنة الأولى.
    المدينة الخائفة من المستقبل، تحتفي بالماضي... تستعيد أعمال سير وقرم فـي معرضـــــين: الأول بعنوان «جورج سير في المجموعات اللبنانية»، تنــظّمه «مؤسسة عودة» في الـ«فيلا» الـــــــــتي باتـــــــت موئلاً جديداً من موائل الفن في العاصمة اللبنانيّة (راجع الحوار مع ريمون عودة في مكان آخر من الصفحة)، والـــثاني «معرض استعادي» لجورج قـــــــرم ينــظّمه «متحف سرسق» العريق.
    عندما أتى جورج سير إلى لبنان، كان قيصر الجميّل ويوسف الحويك وفيليب مورانـــــي وخليل صليبي قد بدأوا يعرضــــــــون لوحاتهم في الخارج، ما جعل سير يدرك أنّ «اللوحات اللبنانية تــــــــؤكد بما لا يحتمل الشك، أنّ الفنّ اللبناني حاضر بقوّة إلهاماً وروحاً». هــــــــــذا الواقـــــــــع دفعه إلى الإسهام في الحركة الفــــــــــنّية اللبنانية، بقدر ما خضع لتأثيـــــــــرها، فنشأت بينهما علاقة تفاعل وتلاقح. هكذا، تشابهت موضوعات لوحاته مع تيار الواقعية السائد في محاكاة مدرسة سيزان الانطباعية، فجسّدت الطبيعة الميتة والبورتريهات والمشاهد الفولكلورية. إلا أنّها تحرّرت من خطوطها الواضحة على عكس أسلوب عمر أنسي مثلاً.
    تُظهر اللوحات المعروضة في «فيلا عودة»، المراحل التي مرّ بها الفنّان، وتداخلها أحياناً في لوحة واحدة: بعد مرحلة التعبيرية والواقعية، فرضت التكعيبية نفسها مدخلاً طبيعياً للتجديد. وها هو جورج سير يســـــــتدعيها متـــــــــأخراً، بعد عملية تقويم ومراجعة للمـــــــــسافة الشاسعة بين نظرياتــــــــه الفنـــــــية وأسلوب ممارسته لها، وخصوصاً أنّ الأزمة القلبية التي تعرّض لها عام 1948 جعلته يتساءل عن مكــــــانته في الفن المعاصر. ذلك الفنّ الذي غزته التكعــــــــيبية منذ الثلاثينيات في باريس، وقاومها سير دائماً وهو هائم في دفء لبنان المتوسطي. لكنّ التكعيبية باتت أمراً واقعاً، بعدما استنفد الفنان المناظر الطبيعية اللبنانية وعادت أضواء باريس تخطف بصره معموديةً إلزاميةً للحفاظ على مكانته كفنّان مواكب للحداثة في نظر اللبنانيين.
    يسمّي الناقد جاك أسود تلك المرحلة بفترة «استعادة المكانة». كان سير خلالها يبحث في بيروت عن مكانته في باريس، مكانة لن يخلقها، بل سيستعيدها محاولاً اللحاق بركب الحداثة، من خلال التحاقه بالتيار «ما بعد التكعيبي» وتعامله مع التكعيبية كمذهب تنبغي ممارسته وتخطّيه في الوقت عينه. قام سير بذلك متّبعاً أمثولة سيزان: التعامل مع الطبيعة من خلال الأشكال الهندسية كالدوائر والأقماع والأسطوانات.
    خلق سير مدرسته التكعيبية الخاصة، سمّاها في اللقاءات التي أُجريت معه «التكعيبية الفائقة التجريدية». إذ اتجه نحو المدرسة التي سُمّيت في الثلاثينيات «غير التعبيرية»، وترتكز إلى تقابل الديكور الواقعي والديكور المجسّد. وشرح مضمونها عام 1955 خلال مقابلة أجراها معه صلاح ستيتية: «قادتني الأبحاث التي أجريتها في لبنان، بعيداً من مكان حدوث الحركة إلى إيجاد امتداد للتكعيبية التي أوقف تيار السريالية تطوّرها. فقد كانت التكعيبية عبارة عن بحث لانهائي عن الأحجام في المساحة. هذا البحث كان موجّهاً في اتجاه وحيد: ملاحقة الشكل من دون الاهتمام باللون. أنا، في المقابل، بحثت عن اللون، وأدخلت الأرابيسك في المفهوم التكعيبي بدلاً من أن ألاحق العمق، أي البعد الثالث، أو حتى البعد الرابع أي حركة الشكل. أعدت اللوحة إلى البعدين الأساسيين في فن الرسم». في هذا الإطار، تعامل سير مع المكان والمساحة بأدوات الرسم التقليدية، فأوحى بمكان يُبنى ويُهدم مع انسياب الريشة واختلاط الألوان واختفاء الحدود القاطعة في الأشكال. تتلمذ الكثير من الرسامين اللبنانيين على يدي جورج سير في المعهد الذي كان يديره لتعليم فنّ الرسم، واعتبره كثيرون رائداً طليعياً، حتى إنّ موسوعة الفنّ العالمي المعاصر التي أعدّها فالديمار جورج عرّفته مروّجاً للمدرسة اللبنانية الحديثة، لا فقط الرائد الفعلي للفن الحديث في لبنان. وجان عودة كان من تلاميذ سير، ما دفع بأخيه ريمون، صاحب بنك عودة، إلى إقامة المعرض الحالي وفاءً منه لذكرى أخيه الراحل، وتقديراً منه لإسهامات سير في إغناء الإرث الفنّي اللبناني.

    «جورج سير في المجموعات اللبنانية» ــــ حتى 29 حزيران، فيلا عودة، شارع مار نقولا، الأشرفية. 331600/01