عام 1967، لاحظ كميل أبو صوان، أمين «متحف سرسق» يومذاك، ندرة المعارض التي تتضمّن لوحات «تمثّل مناظر طبيعية وتعابير إنسانية»، لمصلحة الأشكال الفنّية الجديدة كالتجريدية والرمزية والتكعيبية. واليوم، يستعيد متحف سرسق الإنتاج الإبداعي لرسّامين طليعيّين في لبنان على مفترق قرنين من خلال عرض مجموعة جورج قرم ووالده داود قرم (1852-1930) ومجموعة لرسامين من الحقبة نفسها كعمر الأنسي وألفرد سرسق وحبيب سرور. وترافق المعرض مع صدور كتاب لافت بعنوان «جورج داود القرم» (مكتبة أنطوان) أعدّه ابن الفنان الراحل الوزير السابق جورج قرم، وكشف فيه النقاب للمرة الأولى عن حياة والده من خلال نصوص ووثائق وصور لوحات غير منشورة. وضمّ الكتاب دراسات وشهادات لكل من سيلفيا عجميان، والرئيس الراحل شارل حلو، ومارسل زهار، وإتيل عدنان (تعريب الشاعر أدونيس)، وغي دورنان وغيرهم. ولد جورج قرم عام 1896 حاملاً في جيناته ميولاً فنية ورثها عن والده داود، وتنوّعت بين الرسم والموسيقى والكتابة، لكنّها تكرّست في الرسم. وعلى رغم إجادته العزف على البيانو والمجهود الذي بذله في إنشاء المعهد العالي للموسيقى، وكتاباته المتتالية عن الفن التصويري في لبنان والعالم، وعن رسامين كاللبناني أنيس فليحان والمصري محمود سعيد والفرنسي كلود مونيه، إلا أنّ ولعه بالرسم هو الذي طغى على ميوله الإبداعية الأخرى.
أكمل جورج داود قرم دراسته الأكاديمية في «المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة» في باريس بين عاميْ 1919 و1921. وسرعان ما قاوم إغراءات الشهرة والتقدير الفني الذي بدأ يحظى بهما في باريس، ليعود ويشارك في بناء «دولة لبنان الكبير»، وكان بين أعضاء اللجنة التحكيمية التي اختارت النشيد الوطني اللبناني.
يختصر أحد رسومه الذاتية النادرة حياته. إذ يظهر الرسام نفسه فيها وهو يمسك لوحة الألوان، وفي خلفية اللوحة بيانو وكرة أرضية. فالهاجس الإبداعي لا يكتمل من دون فضول الاكتشاف، وهاجس السفر الذي حمله من بيروت إلى باريس... وبعدها إلى مصر ثم قبرص، قبل أن يعود ويستقر في لبنان عام 1956. انتقل قرم عام 1930 إلى الإسكندرية مع زوجته المصرية ماري بخيت، وأسّس رابطة للفنانين للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، أطلق عليها اسم «المشغل». وأثرى إنتاجه بمناظر طبيعية جديدة، وبوجوه ابتعدت من نخبوية رسم بورتريهات المجتمع الراقي التي نالت قسطاً وفيراً من أعماله، وأشهرها بورتريهات ميشال شيحا وماري حنينة وشكري غانم وأمين الريحاني وجورج نقاش.
في هذا الإطار، تبرز الوثبة التي حقّقها جورج على مدرسة والده ومعلمه الأول داود. فالعلاقة الجدلية بين المدرستين، أي بين الكلاسيكية والتحديث، هي النافذة التي تبرز من خلالها الإضاءات على تميّز الابن وإسهاماته في إثراء مسيرة تلك العائلة ومسيرة الفن التشكيلي في لبنان.
على عكس أبيه الذي تفرّغ لرسم اللوحات الدينية والوجوه الصارمة، والذي فرّ هارباً من مرسم أستاذه في روما، بعدما رأى موديلاً عارياً، ابتعد جورج عن رسم اللوحات الدينية ولمعت عيون الحسناوات في لوحاته... وتعرّت أجسادهن أيضاً.
لم ينتفض جورج على كلاسيكية والده، ولم ينضم إلى الاتجاهات الفنية الحديثة التي ظهرت غداة الحرب العالمية الأولى كالدادائية والتكعيبية، بل أكمل خط والده محكوماً مثله ومثل جيله من الأدباء كجبران خليل جبران (الذي تعلّم الرسم على يدي داود)، وميخائيل نعيمة، بالثوابت الفلسفية، والصوفية المرتبطة بمكانة الشرق كحارس للديانات السماوية والقيم الإنسانية لمصلحة البشرية جمعاء. يبدو هذا النفس الرومانسي والشاعري وهذا التمسك بالأصالة مع خلق امتداداتها المتّسقة معها جليّيْن في مجمل أعمال جورج قرم.
مواضيع أعماله التي تنوّعت بين البورتريه والطبيعة الميتة والمناظر الطبيعية ومشاهد الحياة اليومية تنضح بكلاسيكية طُعّمت من حين إلى آخر ببعض الرمزية. وعلى رغم استعمال قرم للمواد التقليدية في رسومه كالزيت والفحم والباستيل وأقلام الرصاص والطبشور الأحمر، إلا أنه شدّد على دقة الألوان وتأنّى في رسم التقاطيع فكادت لوحاته تنطق لفرط واقعيتها.
واللافت أن جورج قرم تمسّك بالأسلوب الفني الذي انتهجه، حتى آخر أيامه. وكتب كثيراً في نقد سيطرة جوّ المضاربات المالية على المتاجرة باللوحات، ودافع أكثر عن جيله من الرسامين اللبنانيين الذين أهملهم النقاد لحساب الرسامين المستشرقين المقيمين في لبنان.
ترك مجموعة من الوجوه والنخيل والحدائق والجبال الزاهية الألوان... التي نستعيدها اليوم بنوع من النوستالجيا. أعمال لم تقضِ عليها حركات الفن الحديثة، كما تنبّأ كميل أبو صوان عام 1967، ولم تُهمل لحساب أعمال المستشرقين كما كان يتخوّف جورج قرم شخصياً. إذ إنّ بيروت تحتفي به وبجيله من الفنانين اللبنانيين، إلى جانب احتفائها بالفرنسي المستشرق جورج سير.


معرض استعادي لأعمال جورج قرم ــــ حتى 7 تموز ــ متحف سرسق، الأشرفية، 201892/01