موسكو ــ حبيب فوعاني
الكاتب والمخرج وجدي معوّض (1968) ترك لبنان هرباً من الحرب الأهلية عندما كان في الثامنة من عمره، وانتقل إلى فرنسا. وعلى رغم أنّه نسي لغته الأم، إلا أنّ جراح الحرب الأهلية اللبنانية سكنت أعماق وجدانه... وحرائق وطنه الأم ألهبت قريحته، وأخصبت وحيه... ذلك أن «الطفولة سكين غُرزت في العنق»، كما تقول البطلة الرئيسية نوال في مسرحيته «حرائق» التي تعرض في نسختها الروسية، على مسرح Et cetera في وسط موسكو، حتّى السابع عشر من الشهر الحالي. المسرحية التي كتبها عام 2003، «لا تتناول الحرب بمعناها الحقيقي. إنّها مسرحية عن الوعود التي تُنكث، والمحاولات اليائسة لإيجاد العزاء. حتى أنّها لا تستحضر كلمات مثل لبنان أو بيروت» يقول وجدي معوّض، إلى درجة أنّها عندما عُرضت في ألمانيا، خال الحاضرون أنّها تتناول حرب كوسوفو.
ترصد المسرحية قصّة سيمون وجان، توأما نوال التي هاجرت من وطنها الغارق في الحرب الأهلية. بعد موت والدتهما، سيجد سيمون الملاكم وجان أستاذة الرياضيات نفسيهما في رحلة بحث عن والد وشقيق مجهولين بعد قراءة وصية الوالدة. على خطى نوال، سيكتشف التوأمان أسراراً مزعجة عن جذورهما.
المسرحية تتميزّ بالحد الأدنى من الديكور المسرحي، لأنّه كان من المهم للمخرج أن يقدّم وجدي معوض الكاتب المسرحي أولاً. «حرائق» هي أسطورة أوديب اللبناني الذي يفوق أوديب سوفوكلوس بقسوته. جلاد يعذّب والدته في أحد معسكرات الاعتقال التي انتشرت خلال الحرب الأهلية في لبنان، يغتصبها وينجب منها توأمين هما أخواه. يزداد حقد نوال على المجتمع بعدما يؤخذ منها طفلها الآخر بعد ولادته.
هكذا، وبعدما اعتصمت بالصمت طوال حياتها، وكتمت هذا السرّ الأليم... ستطلب من ولديها أن يجدا أباهما وأخاهما ليسلّماهما رسالتين. الرسالة الأولى هي للأب المغتصب، والثانية تفيض بالحبّ للولد الذي حُرمت إياه طوال حياتها.
تتجاور في المسرحية مشاعر متناقضة، فيها الثأر والكراهية والقسوة والرغبة في الانفلات منها. ويتابع وجدي في عمله هذا تعميق تيمات عدة، مثل مسألة التواصل مع الآخر، والعلاقات الإنسانية والإرث الثقافي الذي يقول عنه: «ليس المقصود بذلك الإرث المادي، بل الإرث الذي ينتقل من جيل إلى آخر والذي يحوِّل حياة الناس إلى نوع من القدر غير القابل للتغيير».
تحيلنا «حرائق» إلى أحداث قصّة «الحريق» للكاتب فالنتين راسبوتين الذي تنبأ فيها بانهيار النظام السوفياتي، ودعا فيها مواطني بلاده إلى إطفاء الحريق قبل فوات الأوان، بدلاً من استغلاله وسرقة قوارير الفودكا من المتجر الحكومي.
لقد وجدت مسرحية وجدي معوض وقعها المؤلم في النفس الروسية، ربما لأنّ عجلة التقدّم المادي الهادرة والمنطلقة إلى الأمام أصبحت بحاجة إلى التوقف لبرهة وتأمل الذات. وهذا ما كانت تفعله كتابات تيودور دوستويفسكي الروسية الكلاسيكيّة لمعالجة أمراض المجتمع الروسي بالعودة إلى الجمال الذي سينقذ العالم.
وإذا كان الجمال هو منقذ العالم عند دوستويفسكي، فالحب هو البلسم عند المطبّب اللبناني. وما دامت العقول الروسية الجديدة تبقى عدائية لكل ما هو عربي، ومنفتحة أمام كل ما هو غربي، فقد جيء بوجدي معوض بجواز سفره الكندي ليقول من موسكو كفى لثقافة الحقد العالمية ولعقد الدونية في زمن العولمة وطغيان الفكر الأوحد، والنموذج الأوحد.