stroong>حسين بن حمزة
  • عزلة «الحكواتي الناقد» في زمن الفاشيّة الثقافيّة

  • من رموز الحركة الثقافيّة التي صنعت العصر الذهبي لبيروت. رافق كل التجارب الطليعيّة، وساهم في السجال كاتباً ومؤرخاً ثقافياً وناشطاً يسارياً يحمل لمجتمعه مشروعاً مغايراً، في السياسة والفكر والإبداع. جديد هذا «الناقد العصامي» كتاب «على هامش سيرة طه حسين»، وطبعة ثالثة من «جذور السنديانة الحمراء»

    محمد دكروب ناقد صنعه الشغف بالكتب وقراءتها. لم يُمضِ سوى أربع سنوات في المدرسة الابتدائية في صور، قبل أن يهجرها لمساعدة عائلته. اشتغل سنكرياً وبائع ياسمين وعامل بناء، لكنه لم يفقد علاقته بالكتب. لعل هذا ما يجعل صفة «الناقد العصامي» ملائمة له. لم يدرس دكروب أكاديمياً. لكن هذا لم يُنقص من براعته في النفاذ إلى بنية النص. بل لعل غياب الأكاديمية حرّر ممارسته النقدية، تنطلق من النص لا من النظريات. اخترع نبرة نقدية مختلفة، مازجاً قراءته الذاتية بميوله الفكرية. ماركسيته لم تمنعه من تلمّس الكتابة الجيدة أينما كانت، حتى في نصوص مثار «شبهة» أيديولوجية. لقد عرف كيف يحتفظ بفرديته، على رغم انتسابه الفكري المبكر للحزب الشيوعي اللبناني.
    أصدر دكروب مجموعة قصصية ــــ ظلت يتيمة ــــ بعنوان «الشارع الطويل» (1954). لماذا؟ «بعد صدور مجموعتي الأولى كتبتُ قصصاً أخرى أدّعي أنها متقدمة على قصص المجموعة. كنت أعمل في مجلة «الثقافة الوطنية» (1952 ــــ 1959) ومجلة «الطريق» (1941 ـــ 2003)، وعايشتُ فترة الخمسينيات والستينيات التي شهدت نهضة الشعر والمسرح والقصة والرواية. كثيرون قالوا إني لو أكملت لصرتُ كاتباً مهماً، لكنّي أقنعت نفسي بأنني لا أستطيع مجاراة التجديد الذي يحدث». يُقال إن الكاتب الفاشل مشروع ناقد جيّد؟ «لستُ ميالاً إلى هذا النوع من التصنيفات. هناك نقاد وهناك كتاب. وهناك مبدعون ونقاد كبار في آن واحد، غوته مثلاً أو ت. إس. إليوت. ليس شرطاً أن يكون المبدع ناقداً، لكن هناك نقاد يستحيل أن يكتبوا إبداعاً».
    الأسلوب القصصي راح يتسرّب إلى ممارسة دكروب النقدية. لعل هذا ما يُفسّر خصوصية هذا النقد الذي يخلط النصوص بسيرة مؤلفيها، ويضيف إليها بعض الوثائق، وشيئاً من الذكريات الشخصية المشتركة، ويربط النص بصاحبه وجيله وزمن كتابته، ويقارن ذلك بكتابات مشابهة أو مضادة. هكذا ينشأ نص نقدي، لا يقوم على منهج واحد أو تأويل أحادي. حتى أنّ دكروب نفسه راح يسأل إن كان من السهل «تجنيس» القراءات النقدية التي يكتبها، والتي شرع في جمعها وإصدارها في كتب. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن دكروب اخترع نصه النقدي. لا بد أن معظم من قرأوا صاحب «شخصيات وأدوار في الثقافة العربية الحديثة» (1981) و«وجوه لا تموت في الثقافة العربية الحديثة» (1999)، أحسّوا بتلك النكهة الخاصة. ألم تقترح يُمنى العيد اطلاق تسمية «سرديات نقدية» لتمييز عمل دكروب النقدي مما يكتبه سواه من النقاد؟ إنّه «الحكواتي الناقد».
    يعتبر دكروب أن حضور السرد في صلب منهجه النقدي له أسباب أخرى. فهو لم يتعلّم المناهج والتيارات النقدية، ولا يعرف لغة أجنبية. لقد حصّل ثروته النقدية من القراءة. وعلى رغم أنّ دكروب، باعتباره ماركسياً، انطلق من رؤية واقعية، فإنه غالباً ما كان يتجاوز ذلك إلى مناطق أكثر رحابة وأكثر تعدداً. لم يُخضع النصوص لفكرة مسبقة، بل تركها تقوده إلى فضاء مقترحاتها... وفي هذا السياق يشير دكروب إلى كتابه «الأدب الجديد والثورة» (1980) الذي انتقد فيه ما كان يرتكبه النقد الواقعي في حق النصوص باسم الماركسية المتزمتة. ويقول: «في كتابتي النقدية لا أتقيّد بأي مقولة. النص هو الذي يفرض على الناقد الطريقة التي ينبغي أن يدخل بها إليه، وعليه أن يخلق مقولاته من النص لا العكس. ليس هناك طريقة تصلح لجميع النصوص. لقد استفدت من المناهج كلّها. في حقبة معارك الخمسينيات الثقافية، وقف بعضهم مع الشعر الحديث ووقف آخرون ضده. أنا كنت ضد هذه الضدات».
    يتحدث دكروب باندفاع عن الخمسينيات والستينيات بوصفها المرحلة الذهبية للثقافة اللبنانية والعربية وحتى العالمية. تُرى ماذا يفتقد فيها؟ «هذه أعذب فترة في حياتي. أكثر ما أفتقده السجال. شهدت تلك المرحلة معارك ثقافية كبيرة. على صفحات مجلة «الثقافة الوطنية» دارت معركة «البطل الإيجابي» في الرواية، ومعركة استخدام «الفصحى أم العامية» في الحوار الروائي، ومعركة «التراث» بين العقلانية والتقديس. حالياً لا يوجد شيء من هذا. لو جربتُ أن أكتب مقالاً عنك فستحقد علي. لا أحد يتقبل النقد. الكتاب اليوم يمارسون نوعاً من الفاشية».
    «الثقافة الوطنية» توقفت، ولحقتها «الطريق» منذ أعوام. «يبدو أنّ هذا ليس زمن المجلات الأدبية والفكرية» يقول دكروب بأسى، ويضيف: «حين توقفت «الطريق» أوضحنا في عددها الأخير أننا سنعاود الصدور. لكن في غياب الدعم المادي يستحيل أن يحدث هذا. كما أن دينامو العمل الذي هو محمد دكروب لم يعد قادراً، ولم يعد راغباً أيضاً. اكتشفت أن لدي أكداساً من الدراسات النقدية التي تحتاج إلى تنسيق واستكمال. كتابي «على هامش سيرة طه حسين»، وأنتظر صدور الطبعة الثالثة من كتابي «جذور السنديانة الحمراء» (الفارابي) بعد أيام. وهناك أعمال أخرى عن حسين مروة، والرواية العربية...».
    في معرض حنينه إلى العصر الذهبي للثقافة العربية، يلاحظ دكروب أنّ هناك تبلداً، واكتفاءً ذاتياً، في أغلب ما يُنشر من متابعات نقدية في الصحافة اليومية: «في الماضي كانت المجلات تنشر دراسات نقدية طويلة، تتحول لاحقاً كتباً مهمة. الصحافة لا تؤدي هذا الدور اليوم. القارئ نفسه لم يعد يتقبل ذلك. لكن هذا لا يعني أن لا تجد الدراسة النقدية مساحة لها. ثمة خفة وتسرّع في أغلب ما يُنشر الآن. بعض «النقاد» يعتمدون في مقالاتهم على مقدمة الكتاب... وكلمة الناشر على الغلاف! أما من يحترم نفسه «أكثر»، فيكتب ما يشبه العرض العام. قد تكون هذه هي متطلبات الصحافة اليوم. قد تصلح الملاحق الثقافية لكتابات أكثر ثقلاً وتحليلاً، لكنك لا تجد فيها ما يستفزك كقارئ، أو يخلق نقاشاً ثقافياً. لذا أفتقد ذلك السجال الديموقراطي القديم».

    هذا المساء على «العربيّة»، الثامنة والنصف بتوقيت بيروتأحمد علي الزين يستقبل محمد دكروب في حلقة ثانية من «نوافذ»