strong>عبد الغني طليس
يحلو لبعض الناس تصنيف الياس الرحباني بناءً على آخر عمل فني قدّمه! ينسى هؤلاء، وهم كثر في الإعلام والوسط الفني، تاريخ هذا الرجل وإنتاجه الموسيقي والمسرحي. يطلقون أحكاماً مبرحة عليه، انطلاقاً من أغنية أخيرة هنا، ومقابلة تلفزيونية أو مشاركة في مهرجان معّين هناك. يجده بعضهم، ومنذ سنتين تقريباً، ملحّناً لا يتورّع عن التعاون حتى مع هيفا وهبي... ويكتفي هؤلاء بهذا القدر من معرفة فنان واسع الاطلاع، اسمه الياس الرحباني. وهو، عند بعضهم الآخر، ملحّنٌ لا تردّه الضوابط عن تلحين... إعلانات. ويكتفي هؤلاء أيضاً بهذه المعلومة «الخطيرة» عن فنان لم تكن الإعلانات بالنسبة إليه إلّا دعماً مادياً، لا يستطيع أي ملحن أن يستمرّ من دونه. وهو، بنظر بعضهم الأخير، فنّان «يمزح» في لجنة تحكيم برنامج «سوبر ستار»، لا أكثر ولا أقلّ!
يحتاج الحكم على الياس الرحباني إلى هدوء كبير وذاكرة طيبة مع قدرة على التمييز لتصنيف أعماله: إضافة إلى كونه موسيقياً مبدعاً يكتب شعر أغانيه، هو كاتب مسرحي صاحب إنجازات عدة. ولو لم يكن شقيق الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين ارتبط اسماهما بالمسرح الغنائي اللبناني، لكان حضوره في هذا العالم الفني الراقي أكثر دويّاً. لكنّ كمية أعمال الأخوين (فاقت عشرين مسرحية) وضخامتها، حجبت ثلاثة أو أربعة أعمال غنائية وضعها الياس الرحباني، وحققت نجاحاً كبيراً.
كثيرة هي المقطوعات الموسيقية التي حملت توقيعه، وزيّنت عوالم الدراما السينمائية العربية. أما الأغاني التي كتبها ولحّنها ووزعها فبالآلاف، وبالنسبة إلى الإعلانات، فلا حصر لها... وقد بلغ إتقانه الأغنية الإعلانية حدّاً جعله قبل سنوات يحوّل لحن شريط ترويجي الى أغنية للفنانة صباح. بهذا المعنى، لا يمكن اختصار تجربته بنوع محدد من الموسيقى أو الأغاني... كلاسيكي على شعبي على «طربي»، رومانسي على إيقاعي على راقص، مسرحي على أغنية منفردة، وغربي على شرقي على جبلي لبناني: خلطة غريبة عجيبة من الفنون تجتمع في هذا الرجل. والأغرب أنّه لم يفشل في أي من الأنواع التي خاض غمارها. قد يكون نجح في مكان أكثر من مكان آخر، لكنّه قطعاً لم يفشل في أي منها. وربما هذا التعدّد هو الذي شتّت النظرة إليه لدى بعض الجمهور، إذ بات من الصعب الإحاطة بكل مهاراته الفنية إلاّ لمن رغب في التقصّي. وهؤلاء قلّة قياساً بالكثرة التي تأخذ الأمور عفو الخاطر، وتحكم على الربيع كلّه من خلال سنونوة واحدة، ربما أصابها وهن أو مرض! إنه ذو نكهة لحنية وإيقاعية ومزاجية مختلفة، حتى أغانيه لفيروز لم تكن كتلك التي وضعها أخواه، أو لحّنها فيلمون وهبي. وإذ تراجع اليوم عدد نجوم الغناء الذين يقصدونه طلباً لأغاني جديدة، فما السبب نقص في التجدد أو هبوط حادّ في دورته الدموية الفنية، بقدر ما هو تحوُّل في مزاج الجمهور تجاه أغانٍ أخرى، ونظام قيم فنية آخر، يكاد يكون عاصفاً ضد كل ما سبقه. وعلى رغم أنه في مرحلة من المراحل كان يُعتبر عاصفاً في مزاجه وإنتاجه الفنيين، فإنه «عجز» عن اللحاق بـ «العاصفة» الأخيرة. لذا تراه يحاول تفسير هذا العجز بأنه «مقصود» لعدم ركوب موجات فنية سيئة، في معرض الدفاع عن ذاته الفنية أمام اتهامه بأنه بات تقليدياً، تغيب عنه روح العصر وأفكاره! لكن «بدي عيش» التي غنّتها هيفا، من كلماته وألحانه، هي نموذج لمرحلة يستطيع فيها أن «يعيش» الرحباني مع مغنّي جيل جديد، كما يحلو له... مع شرط ضروري للعيش هو التوقف عن إطلاق التصاريح النارية التي تخلط شعبان برمضان!