المسرحي ريمون جبارة انطفأ أمس في مستشفى بحنّس. ستارة الفصل الأخير ــ المخمليّة الحمراء نفسها ــ أسدلت أخيراً على حياة فنّان خارج السرب، غير قابل للتصنيف، بعد معاناة طويلة مع المرض. لقد تعامل المعلّم مع هذا الوضع الصعب، منذ التسعينيات (إثر إصابته بفالج كانت نتيجته شللاً نصفياً حدّ من قدراته الجسديّة)، كما تحايل على الحياة نفسها: بمزيج من السخرية، والشاعريّة، والهذيان الواعي، والغضب المكبوت، والفطرة (القرويّة) الشعبيّة.
إنّه سرّ هذا الفنان العفوي الذي التفّ على الوجود، ليكتب مسيرته الاستثنائيّة التي لم يكن ليتنبّأ بها أحد. وحدها تلك الأداة الخارقة التي يسمّونها السليقة، وفي رواية أخرى الموهبة، نقلته من عالم إلى آخر مثل المصعد السحري في المسرح الاغريقي، وجعلت من ابن «البلانتون» (الحاجب)، الذي بدأ «موظّفاً في (دائرة) المساحة» ــ مثلما كان الشاعر ميشال طراد حارساً للقلعة ــ أحد كبار الثقافة اللبنانيّة في القرن العشرين. لذا كانت دائماً علاقة شخصيّاته بالوجود عموديّة ربّما: تخاطب السماوات، وتتحدّى الآلهة، وتهزأ من أصحاب السلطة والنفوذ، بكوات كانوا، أم قادة ميليشيا، أم رجال دين. «ما حاجتنا بالدين إذا لم يكن هدفه إسعاد البشر؟» يسأل الراحل زميله روجيه عسّاف في الفيلم الذي أنتجته «جمعيّة شمس» في اليوبيل الذهبي للمسرح اللبناني (٢٠١١).
«مسرحي مشكلته مع الله، مع نظام الوجود. المشروع الانساني نفسه. وهذه الأفكار هواجس منذ صغري، لا أعرف. ربما تربيتي وضعتني في هذا الاتجاه. ربما سنوات المرض في طفولتي المعذبة هي بئر عطائي»، يقول في حديث إلى سليمان بختي بعد مسرحيّته «من قطف زهرة الخريف؟» («النهار»، تموز/ يوليو ١٩٩٢). أما الأسياد الذين لم يفوّت فرصة للاقتصاص منهم، فقد نجد سرّهم عند «مسيو عسّاف» ربّ عمل والده الذي كان يمسّد شعره صغيراً بفوقيّته، وشفقته الجارحة، وودّه الكاذب. كان ريمون الصغير يقبل خاضعاً طبعاً، ويأخذ الإكراميّة من مسيو عسّاف. لكنّ تمسيد الشَعر بات بالنسبة إليه إهانة قصوى، تدجيناً وازدراءً وإذلالاً، رمزاً لخضوع «زردشت» (كميل سلامة) المثقّف والدكتور الجامعي الذي صار كلباً (على طريقة الأرجنتيني أوسفالدو دراكوني الذي استوحى منه رائعته «زرادشت صار كلباً» ١٩٧٧).
لن يشفى ريمون ــ لحسن الحظ ــ من حقده الطبقي، فقد أقسم في سرّه ألا يمسّد أحد شَعره عندما يكبر. ذات يوم، دخل إلى المسرح «بالمصادفة» كما كان يحب أن يردد بفضل منير أبو دبس، مستعيداً تجارب الطفولة والمراهقة في مسرحيّات الضيعة، ليجد هنا حصانته، ويهتدي إلى ذاته الحقيقيّة. فاجأ الجمهور ممثلاً أوّلاً، ثم «مؤلّفاً» بالمعنى الأشمل، أي مخرجاً ومؤلفاً ومصمّماً لأعمال هي اليوم علامات في سجل المسرح العربي. لن يخضع أحد، بعد ذاك، هذا الوحش المتمرّد الذي سيردّ بالمسرح على ظلم العالم، وخلله، وعيوبه، وصغائره.

انتقد السلطة السياسية والطبقية والدينية لكنه بقي في الدائرة التقليدية المحافظة
مسرح لامعقول، يجمع بين عبثيّة فرناندو أرابال الجنائزيّة، وغرائبيّة فدريكو فلليني، من دون أن ننسى الحزن الاحتفالي الذي يرشح من عالم البولوني تاديوش كانتور بين أشباح طفولة كئيبة، وأعباء الحروب، وأطياف الموتى، وطغيان رجل العسكر ورجل الدين. مسرح مزعج، يصعب تصنيفه في خانة، ولو أن صاحبه الذي انتقد رجال الدين، وأصحاب السلطة، والتقط غصّة المهمّشين والضعفاء، بقي في الدائرة الانعزاليّة، وانزلق إلى العنصريّة أحياناً، من دون أن يتخلّى عن تمرّده. تلك واحدة من المفارقات الإشكاليّة التي تصنع فرادته. أليس هذا تحديد الفوضوي اليميني؟
«ييي مات!» تصرخ (الراحلة) رضا خوري ممثلته الأيقونة، في «قندلفت يصعد إلى السماء» (1980، مستوحاة من «احتفال بزنجي مقتول» لأرابال). «ليش قديش كان عمرو؟» يسأل كميل سلامة. وبعدما يعرف الاجابة، يضيف هذا الممثل المميّز الذي جسّد جبارة طويلاً، وكان صنوَه و«قرينته» على المسرح: «يا حرام شو بيكون ضجر بحياته». هذا المشهد يأخذ اليوم بعداً آخر، مثل مشاهد كثيرة من أعمال ريمون جبارة حاضرة بشكل مدهش في ذاكرتنا. يا حرام ريمون جبارة؟ ليس تماماً. ليس للأسباب نفسها على الأقل. لعلّه، رغم عبء المرض، وانحسار الطاقة الإبداعيّة في السنوات الأخيرة، لم يجد وقتاً للضجر، هو الذي أمضى عمره يستفزّ معاصريه بمزيج من القسوة والرقّة، ويستهزئ بالواقع، ويتحدّى السائد من دون أي ادّعاء «ثوري» بالمعنى الذي يمليه الوعي السياسي. رائد المسرح العبثي في لبنان والعالم العربي الذي حيّا فيه الناقد والمنظر ميشال كورفان «ذلك الفنّان الفطري»، لم يدرس المسرح، ولم يأت الفنّ من الثقافة والمعرفة، بل من المخزون الشعبي، ومن طاقة إبداعيّة تشبه الينابيع الصافية. يقول ريمون إنّه تعلّم من مطر محمد فضيلة الصمت في المسرح. وهو يلتقي مع عازف البزق «الغجري» في تلك النزعة الفطريّة التي اكتسبت نعمة الخلق عن طريق «السماع»، وطوّعت القواعد بقوّة الوحي والموهبة والممارسة.
برحيل ريمون جبارة نخسر واحداً من كبار المسرحيين العرب ومن أهمّ رواد المسرح اللبناني الحديث الذي عرف أوجه في السبعينيّات عشيّة الحرب الأهليّة. فنان على حدة بأسلوبه، ونظرته إلى العالم، بكلمته اللاذعة وعبثيته، وتمرّده، وشعريّته، وجمعه بين الفجاجة السوقيّة والجماليّة المترفة. برز ممثلاً من الطراز الرفيع في إدارة مخرجين كبار مثل منير أبو دبس (كريون في «انتيغونا» سوفوكل، وراسكلنيكوف في «جريمة وعقاب» دستويفسكي، 1962) وأنطوان ملتقى (ريتشارد الثالث، شكسبير)، ولطيفة ملتقى («وصية كلب»)، وبيرج فازليان («لعبة الختيار»، «الزنزلخت» لعصام محفوظ)… لكنّه للأسف سرعان ما أقلع عن التمثيل ليقف من الجهة الأخرى. ابتداءً من عام ١٩٧٠، مع باكورته «لتمت ديسدمونة»، أبدع مسرحه الخاص، مسرحاً يشبهه في كل شيء، بعوالمه، وموضوعاته، ولغته، وصوره، وحواراته… يشبهه في التمثيل والإخراج، وتقشّف الخشبة التي تقوم على نصّ وممثّل ومناخات بصريّة أشرك فيها تشكيليين كباراً مثل الراحل ألفونس فيليبس. هكذا وضع جبارة نفسه في كل شخصيّاته، وفي كل ممثلاته وممثليه: رضا خوري التي كانت ملهمته (رحلت بفارق 4 أيام، ١٨ ابريل، قبل ١٤ عاماً)، الراحل فيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، منير معاصري، موريس معلوف، جوزيف بو نصّار… ثم الجيل اللاحق غابرييل يمين، جوليا قصار، رندا الأسمر…
أخرج خلال السبعينيات والثمانينيات أعمالاً أساسية قوامها العبث واللامعقول، مستعيداً ثيماته الأثيرة: الموت، الرغبة، القمع، العجز الجنسي، الفشل، اللعبة السلطويّة، القمع، الهوّة بين المثال والواقع، التفاوت الطبقي، التمرّد الفردي، الإحباط، تخبّط الافراد في المتاهة، وصاية رجال الدين والسلطة، قيود المجتمع المريض، وعبثية الوجود… أعطى جبارة المسرح العربي واللبناني بعض روائعه: «تحت رعاية زكور» (1972)، و«زرادشت صار كلباً» (1977)، و«دكر النحل» (1982)، و«صانع الأحلام» (1985)، إضافة إلى مسرحيتين تدوران في فلك الدين، على خلفيّة الحرب الأهليّة: «شربل» (1976)، و«محاكمة يسوع» (1979). انقطع سنوات عن المسرح قبل أن يعود مع «من قطف زهرة الخريف؟» في إعادة افتتاح «مسرح بيروت» (١٩٩٢). العمل المذكور كان فيه قدر كبير من المرارة والسوداويّة، واعتبره النقاد وصيّته… ثم جاءت «بيكنيك ع خطوط التماس» (1997) لتعكس وهناً واضحاً، لم يقض على النفس الساخر الذي وظّفه طوال السنوات الأخيرة في كتابة المقالات (المثيرة للجدل، مع سقطات مقلقة أحياناً) في الملحق الثقافي لجريدة «النهار». وكان آخر ما قدّمه للخشبة «مقتل إنّ وأخواتها» (2012)، ويتناول فيه بشكل غير مباشر انهيار العالم القديم ــ عالمه ــ من خلال تلك المواجهة العبثية كالعادة بين السمكري «محظوظ» (غابرييل يمين)، والأستاذ «مأيّر» (رفعت طربيه) المثقف المسكون بالمرارة والعقم والفشل والقطيعة مع الواقع. مواجهة تنتهي ــ على طريقة «فاندو وليز» مسرحية أرابال ــ بفعل القتل الرمزي، كوسيلة الاقتصاص والاحتجاج (والخلاص) الوحيدة المتبقية.
أبدع ريمون جبارة أعمالاً فلسفيّة قبل كلّ شيء. كل مسرحيّة له مانيفستو يطرح أسئلة جماليّة، أسئلة مسكونة بهواجس وجوديّة، وفرديّة، تواجه النظام القمعي بلغة هذيانيّة، بوعي متمرّد للعالم. إبداعه كان ثمرة تجربة حياتيّة تبدأ من الشخصي لتعانق العام، وتصبّ في الوجدان الجماعي لمعاصريه. وحكايته حكاية فريدة في تاريخنا الثقافي. بعد غدٍ الجمعة سنصفّق للنعش الخارج من الكنيسة، وسننحني أمام «صانع أحلام» استثنائي غيّر حياتنا، وقال أوجاعنا وتناقضاتنا وأحلامنا الضائعة.

* تقام مراسم الدفن عند الرابعة من بعد ظهر يوم الجمعة في «كنيسة الرسولين بطرس وبولس» في قرنة شهوان. وتقبل التعازي أيام الأربعاء والخميس والجمعة والسبت في 15 و16 و17 و18 نيسان (أبريل) من الحادية عشرة صباحاً لغاية السابعة مساء
في صالون الكنيسة.