باريس ـــ عثمان تزغارت
  • جيل القطيعة الرقميّة يعلن ولادة «الفن الثامن» في باريس

  • هواية تصوير لقطات الفيديو عبر الهاتف الخلوي دخلت دائرة الشرعيّة والتكريس عن طريق «المهرجان الدولي لأفلام الجيب» في باريس... صرعة جديدة وطفرة عابرة؟ أم فنّ بديل، ديموقراطي، يقول اللحظة ويعطي الكلمة للشارع؟

    اعترف تيري فيرمون المستشار الفنّي لـ «مهرجان كان السينمائي» بأنّ المدّ الرقمي الذي اكتسح الفنّ السابع في السنوات الأخيرة، جعلَ رُبع الأفلام المرشّحة للمهرجان مصوّرة أو مُعالجة إلكترونياً... ولعل هذا الأمر من الدوافع التي جعلت «ملتقى الصور» (Forum des images) و«مركز بومبيدو الثقافي» في باريس، يغامران في تجاوز الحدود المتعارف عليها في تعريف شرعيّة «الفنّ»، من خلال تأسيس أوّل مهرجان سينمائي دولي مخصّص كلياً لما بات يُعرف بـ «أفلام الجيب» التي تُصوّر عبر الهواتف الخلوية.
    لا شك في أنّ تكنولوجيا الاتصالات الحديثة أحدثت ثورةً جذريةً في مختلف أوجه الحياة المعاصرة، وطاولت تأثيراتها مختلف أشكال التعبير الفنية، ولا سيما الفنون السمعية ــــ البصرية. هكذا، سجّل الفن السابع في السنوات الأخيرة تزايداً مطرداً في حضور التقنيّات الرقمية، سواء لتصوير الأعمال السينمائية أو استعمالها لتطوير آليات إلكترونية للبثّ والعرض السينمائيين، وهو ما بات يهدّد على المدى المنظور باختفاء الشريط التقليدي الذي رافق الفن السابع وارتبط به، مذ أدار الأخوان لوميير كاميرتهما الأولى مطلع القرن الماضي.
    هذا المدّ الرقمي كان بادياً بوضوح خلال «مهرجان كان السينمائي» الأخير على سبيل المثال، إذ أعلن تيري فيرمون أنّ اللجنة الفنّية المشرفة على المهرجان تلقّت 380 فيلماً مرشّحاً من أصل 1540، صُوّرت بالتقنيات الرقمية أو عولجت بها. وتأثيرات هذا المدّ الرقمي لا تقتصر فقط على تطوير تقنيات جديدة تتيح للسينما «التقليدية» أن تستفيد منها في مجالات التصوير والمونتاج والمؤثرات الصوتية والبصرية، أو في تصنيع آليات رقمية للعرض والبث. ففي خضمّ هذا التسونامي الإلكتروني، نشأ «جيل رقمي» راح يؤسّس لأنماط ثقافية بديلة تمثّل قطيعة جذريّة وغير مسبوقة مع الأشكال والقوالب الفنية «التقليدية» التي كانت سائدة في عصور ما قبل الثورة... الرقمية!
    هذا الأمر دفع بمؤسسة ثقافية بارزة وعريقة مثل «مركز بومبيدو» الثقافي في باريس، إلى التحالف مع «منتدى الصور» المعروف بنشاطاته الطليعية والرائدة في مجال الفنون البصريّة، بهدف تحويل مهرجان سينمائي صغير وهامشي تأسّس قبل ثلاث سنوات إلى أول تظاهرة سينمائية من المستوى الدولي، تُخصَّص كلياً لصنف سينمائي جديد بات يُصطلح على تسميته بـ «أفلام الجيب»، ويُقصد بها الأفلام التي صوّرت بكاميرات الهواتف الخلوية. واللافت أنّ «مهرجان أفلام الجيب» نجح في التقديم للجمهور وتعريفه بالاحتمالات الفنية للهاتف الخلوي أداةً جديدةً للابتكار، فتنوّعت الأعمال التي قدّمها من الخيالي إلى التجريبي مروراً بالوثائقي.
    المهرجان الذي اختتم أخيراً، استقبل قرابة ألف فيلم من ثلاثين دولة، اختير منها 26 فيلماً عُرضت في «المسابقة الرسمية» تحت إشراف لجنة تحكيم ترأسها السينمائي كلود مولير. بينما عُرض 190 فيلماً في التظاهرات الموازية وأبرزها «البانوراما الفرنسية» و«البانوراما الدولية» التي أسهمت في إعدادها مؤسّسات ثقافية متخصّصة في وسائط التواصل الجديدة، أو الـ «نيو ــــ ميديا»، مراكزها في طوكيو ونيويورك وهلسنكي وأبيدجان بشراكة وثيقة مع تسعة مهرجانات تعنى بالتكنولوجيات الحديثة في الولايات المتحدة والبرازيل وألمانيا وهولندا والدنمارك وإيطاليا وكندا والصين وأستراليا.
    أول ما يلفت في هذه الأفلام التي تراوح مدتها بين دقيقة ونصف وثماني دقائق، قابليتها المذهلة للبثّ على شاشة كبيرة، خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى. هذا بفضل ما عرفته كاميرات الهواتف الخلوية من تطوّر على صعيد تحسين نوعية الصورة وأيضاً بفعل كسر هذه الأفلام للقوالب السينمائية التقليدية ذات الطابع الحكائي، لحساب أنماط بديلة تستلهم ومضاتها من أسلوب رسائل الهاتف القصيرة (المكتوبة). وتعتمد في غالبية الأحيان أسلوب تجميع شاشات/ موبايلات متعدّدة لصناعة المشهد الواحد وتركيب مكوّناته مثل لعبة Puzzle.
    لا شك في أنّ الوقت ما زال مبكراً للجزم فيما ما إذا كانت تأثيرات «أفلام الجيب» ستقتصر على تطعيم السينما التقليدية بلمسات فنّية مغايرة، وروح شبابية تضخّ فيها دماء تجديدية... أو إذا كانت تلك التجارب ستشق طريقها باستقلال، وتتبلور في شكل تعبير جديد له معاييره وأشكاله وأساليبه وقوالبه وجمهوره الخاص. هل تؤسس التجارب التي شاهدناها في باريس لـ «فن ثامن»، تكون علاقته بالسينما المتعارف عليها مثل علاقة الإنسان بالقرد، سلفه البعيد؟
    هذه التساؤلات كانت حاضرة في المهرجان من خلال الندوات والنقاشات، ومن خلال فعاليات موازية لعلّ أبرزها «الشاشة الرابعة» التي قدمت أفلاماً أنتجت بالأساليب السينمائية والتلفزيونية التقليدية، لكن خصوصياتها تكمن في أنّها موجّهة للبث والمشاهدة على الهواتف الخلوية. ونشير إلى تظاهرة أخرى بعنوان «عرض خاص»، تمثّلت في أفلام قصيرة ومتوسطة (3 إلى 22 دقيقة) حملت توقيع سبعة سينمائيين «تقليديين» هم أوليفيه دوكاستال وإيفغن بافكار وفانسن أوستريا وسولفغ أنسباش وفيفيان أوستروفسكي وإيستل كورتوا ومارسيل حانون وألان فليشر. طلب إلى كل من هؤلاء أن ينجز فيلماً خاصاً بالمهرجان، عبر هاتفه الخلوي... والهدف طبعاً رصد تأثيرات تلك الوسائط الجديدة على أساليب مخرجين بارزين، وانعكاساتها على لغتهم السينمائية.
    أمّا التظاهرة الثالثة، فتمثّلت في عرض ستة أفلام طويلة (فيلمان روائيان وأربعة أفلام توثيقية) رواحت مدّتها بين 38 دقيقة وساعتين، حققها سينمائيون مكرّسون من خلال كاميراتهم الخلوية، في خيار فنّي متعمّد. إذ قدّم إيملان لندن «رحلة إلى فلاديفوستك على متن (قطار) ترانس ـ سيبيريا»، وكذلك قدّم بونوا لابوريت «تريتون». أما جوزف موردر، فقدّم «أريد أن أتقاسم الربيع مع أي أحد»، فيما قّدم أرنولد باسكوير «رحلة إلى إيطاليا». أما لو كاستل فقد سرق الأضواء بفيلم آسر، نال جائزة الجمهور بعنوان «كيف يمكن أن نصبح أكثر إنسانية مع الشخص نفسه وفي الوقت نفسه؟»، ورصد فيه 24 ساعة في حياة مشرّد في مدينة غربية مكتظة وغامضة المعالم.
    أما الصحافية والسينمائية الإيرانية المقيمة في باريس صفيدة فارسي، فقدّمت فيلماً بعنوان «هرات» يروي رحلة اصطحبت فيها ابنتها البالغة ثمانية أعوام للتعرّف إلى مسقط رأس جدها في إيران. وإذا بالرحلة تتحول رحلتين حيث يقرّر الجد بدوره اصطحاب حفيدته إلى «هرات»، مسقط رأس والده في أفغانستان. أما العمل الذي نال الجائزة الأولى للجنة التحكيم، فهو وثائقي بعنوان «باب شواسي» للفرنسي أنطونان فيرييه، ويسجّل وقائع محادثة إيروتيكية بين رسّام وملهمته العارية التي يرسم بورتريه لها.