بشير صفير
فيروز على غلاف العدد الأخير من المجلّة الكويتيّة «العربي» التي تفرد ملفّاً خاصاً للمطربة اللبنانيّة، يسلّط الضوء على حياتها الشخصية ومسيرتها الفنّية وعلاقتها بالأخوين رحباني وبابنها زياد. يقوم الملفّ على أربعة مقالات لكتّاب لبنانيّين، عبّروا عن رأيهم بفيروز الإنسانة والفنانة، كل من منظوره الخاص.
هكذا أتى مقال الصحافي والناقد إبراهيم العريس وجدانياً صرفاً، بينما فنَّد الموسيقي والمؤرخ الياس سحاب خصائص صوت فيروز ومراحل تطوره، وسرد جورج طراد سيرة فيروز الفنّية والشخصية. أما الروائي والصحافي محمد أبي سمرا، فذهب إلى تبيان الجذور التاريخية لعائلتيْ فيروز والأخوين رحباني. ولم يفوّت هذا الأخير فرصة انتقاد الرحباني الابن بأسلوب خلا من أدنى أصول النقد العلمي لمسيرته الفنّية التي ربطها الكاتب بعقدة أوديبية دفعت زياد إلى قتل والده (رمزياً) والزواج فنّياً من أمه.
«مشاهد متفرّقة... لصوت خجول» هو عنوان مقال إبراهيم العريس الذي قسّم مادته إلى ثلاثة مشاهد. المشهد الأول حكاية من نسج الخيال تروي تفاصيل اجتماع افتراضي لـ«مجلس» عائلة الرحباني إبان اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، أراد فيه الكاتب تظهير صوت فيروز على أنّه لسان حال الجميع في الوطن العربي... على رغم كل الانقسامات الطائفية والسياسية. وخلص المجتمعون ـــــ بحسب رواية العريس ــــــ إلى اتّفاق يقوم على توزيع الأدوار في ما بينهم: «... زياد يذهب إلى الوطنيين. الياس يبقى على علاقة بالمسيحيين. عاصي حصّته العرب (...) ولكن ماذا عن فيروز؟ كان الجواب: تبقى لكل لبنان وكل العرب». ويدور المشهد الثاني على هامش حفلة فيروز التي أُقيمت في 17 أيلول 1994 في ساحة الشهداء بعد غياب طويل، معتبراً أنّ صوت فيروز جمع اللبنانيين في كل المناطق، وكذلك بعض العرب في الساحة التي دمّرتها الحرب. وأدّى ذلك الحدث دوراً مفصلياً في إعادة إعمار الوسط التجاري، إذ وصفه الكاتب بالبروفا العامة لإنجاز العمران، الحلم الكبير الذي عاشه لبنان بين 2000 و2005، على حدّ تعبيره.
لكنّ العريس أغفل أنّ الحفلة أُقيمت على أرضٍ محت شركة «سوليدير» تاريخها، بعد إرغام أصحاب العقارات فيها على التخلّي عنها مقابل حفنة من الدولارات، وأنّ حضور فيروز إلى هذه الساحة أراد منه «السوليديريون» الترويج لمشروعهم، وتكريس «شرعيّته» الوطنيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ زياد الرحباني وقَّع يومذاك، خلال لقاء مع الطلاب في مسرح الـ«بيكاديللي»، على عريضة تناشد فيروز عدم إحياء حفلة على أرض أناس سُلبت حقوقهم. كان ذلك في 31 آب ١٩٩٤، وبعدها مات بعض من أصحاب تلك الأملاك قهراً كما هو معروف.
أما المشهد الثالث فيسبق زمنياً المشهدين الأولين ويروي على لسان منصور الرحباني لقاء الأخوين رحباني مع نهاد حداد في الإذاعة اللبنانية عام 1952، الذي كان عرّابه حليم الرومي، الموسيقي الكبير وأوَّل مَن تنبّه إلى صوت فيروز المميّز. الموسيقي اللبناني الياس سحاب شرح بإسهاب أن في «حنجرة فيروز حساسية وجماليات معتّقة»، وأظهر مزايا صوتها وتطوّره وطاقاته، واعتبر أن موهبة فيروز هي في حسن استخدامه. واتّسمت المقالة بالحسّ العلمي والسهولة معاً. وتناول سحاب الألحان التي كتبها زياد لفيروز، مبيّناً تأثره بالرحابنة وبفيلمون وهبي في الأغنيات الشرقية الخالصة (أي التي تقوم على المقامات التي تدخل فيها أرباع الأصوات)، فاصلاً بين مرحلة ذروة النضج والتجربة في صوت فيروز («معرفتي فيك»، «كيفك إنت»)، ومرحلة شيخوخة الأوتار («مش كاين هيك تكون» وما تلاها). وعرض سحاب الألحان التي خصّ بها فيروز بعض كبار الملحّنين كفيلمون وهبي وزكي ناصيف... ولم يخفِ إعجابه الكبير بالألحان التي كتبها لها عبقري الموسيقى العربية في القرن العشرين محمد عبد الوهاب كما وصفه.
بعد سحاب، سرد الأكاديمي اللبناني جورج طراد، باختصار، سيرة فيروز الفنية والشخصية، متوقّفاً عند بعض المحطات والشائعات المتعلقة بحياتها الزوجية وعمليّة التجميل التي خضعت لها. ولم يفُته التذكير بأنّها لم تلبِّ أي دعوة للغناء أمام رؤساء وملوك عرب منذ زيارة شاه إيران إلى بيروت عام 1957 حتى مؤتمر القمة العربيّة في القاهرة عام 1976، مورداً في السياق شهادات نقلها بعض المقرّبين من فيروز. وختم الكاتب مقالته مثنياً على تجربة فيروز ـــــــ زياد التي يرى أنّها أثبتت نجاحها في إيصال فيروز إلى الجيل الجديد، على رغم «تحفّظ بعض المؤلفين على نفَس زياد في التأليف الموسيقي».
وتحت عنوان «صوت من حنين وذكريات»، بحث الكاتب اللبناني محمد أبي سمرا في الجذور العائلية لفيروز والأخوين رحباني، والانتقالات الجغرافيّة التي فرضتها الظروف في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على الأجداد والآباء. وفرد حيّزاً واسعاً للكلام عن الحنين إلى القرية اللبنانية، والحياة الريفية، والكاتب صاحب أطروحة جامعيّة عن هذا الموضوع. وانتقد الخط الفني العام لزياد الرحباني وعلاقته الموسيقية بفيروز، معبّراً عن عدم اكتراثه لإصرار زياد الأوديبي على قتل والده (رمزياً)، والزواج فنّياً من أمه، واصفاً إياه بالابن الضّال. إلا أنّه لا بدّ لنا ــــ أمام هذا الاتهام الخطير وغير الدقيق ـــــ أن نسأل أبي سمرا عن رأيه بأسطوانة «إلى عاصي»... ما هو، في اعتقاده، رأي عاصي بأسلوب زياد التجديدي؟ وماذا كان ليسمّي ما قام به عاصي على الصعيد الموسيقي من تجديد منذ بداياته في الخمسينيات؟ وهل كان سيتّهم عاصي بالأوديبية، لو أنّ أمّه مطربة مشهورة مثل فيروز، يكتب لها زوجها ألحاناً كلاسيكية؟ عاصي، في جيله، فعل تماماً مثل زياد، أعلن القطيعة وكتب الألحان التي نعرفها ويحبّها أبي سمرا...