بغداد ــ سعد هادي
«مهرجان المدى» منحه على عجل «مسلّة حمورابي». والمستشفى أقعدته عن الكتابة. آخر إبداعاته حواريات عن العراق الآن. الروائي الثمانيني يراجع تجربته، ويحاكم أبناء جيله ومن تلاهم. عودة إلى «مسرات» التكرلي و«أوجاعه» ومسائل أخرى

يرى فؤاد التكرلي أن لا فائدة تُرجى من الجيل الأدبي الذي ولد في العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات، لأنّ ممثليه اعتادوا قمع السلطة، وفقدوا طاقتهم على الكتابة. ويرى أيضاً أنّ روّاد الأدب في الخمسينيات هم الكتّاب الحقيقيون، وأيضاً الكتّاب الذين تأثروا بهم من الستينيين والسبعينيين. إلا أنّ الســـــــــتينيين حاولوا بالأساس معارضة ما أنجزه كتّـــــــــــاب الخمسيــــــــــنيات، ودار في خلدهم أنّهم يستطيعون الإتيان بالجديد، وبتجارب لم يسبقهم إليها أحد. حاولوا أن يسلكوا اتجاهاً مغايراً، تمرّدوا، تطرّفوا، لكنّ ما أنجزوه كان نكوصاً وخيبة أمل في كثير من الأحيان.
التكرلي الــــــــــــذي بلغ الثمانين (مواليد 1927) يرى أنّ أبناء جيله هم حزمة متكاملة، يتــــــــــشابهون في التعبير الواقعي عن المجتمع، لكنّه يشعر بأنّه مختلف عنهم في مسألة التعبير عن الفرد ودواخله: «قصصنا القصيرة تبدو أحــــــــــــياناً كأن قلماً واحداً سطَّرها، كنّا نشترك في رسم لوحة بانورامية واسعة لمجتمع تلك الفترة. ما أنجزه الخمسينيون في القصة يفوق ما أنجزه زملاؤهم الشعراء... لكن للشعر سطوة أكبر عــــــــند العرب». الشعر لم يراود الـــــــــــتكرلي يوماً: «استغرقني الــــــــــنثر منذ البداية. النثر الروائي عالم معقّد، واللغة الروائية ينبغي أن يكــــــــــتشفها الروائي بنفسه، لا عبر الاستفادة من تراث ضخم ومتنوّع كما يفعل الشاعر».
أصدر التكرلي أخيراً روايةً بعنوان «اللاسؤال واللاجواب»... يقول إنه شعر بالحماسة لكتابتها ولا سيما أنّه كان في صحة جيدة: «أردت التعبير عن فترة زمنية يحاول العالم محوها من تاريخ العراق، هي فترة الحصار الاقتصادي. جاءت الرواية موجزة وقصيرة. عندما بدأت الكتابة لم أكن أعرف كم سيكون طولها، أنا حذر في إطالة أي موقف لأي سبب كان. أفادتني كتابة القصة القصيرة في هذا المجال. في الرواية أشعر بأنّ الجمل محسوبة عليّ». إذ يكــــــــــفي أحياناً على حدّ تعبيره رسم صورة ذات تفاصيل واقعية في الــــــــرواية لنجعلها حية حتى النهاية.
كيف بدأ الكتابة؟ «لا أعرف. تجيئني فكرة وأشعر بأن عليَّ تدوينها. رواية «خاتم الرمل» مثلاً (1995) كتبتها خلال إقامتي في تونس، استولت عليّ الفكرة فجأةً. انتبهت إلى أنها كانت موجودة في ذهني منذ زمن بعيد، لكني كنت أجهل طريقة التعبير عنها. وهذا ما حدث للـ«المسرات والأوجاع» (1998)، فحالما انتهيت من «خاتم الرمل»، تلبّستني فكرة أخرى هي قديمة أيضاً، كنت حائراً في كيفية تشكيلها فنياً. باشرت كتابتها حالاً من دون توقف، فكري مشغول دائماً، وأنا باستمرار داخل الحوت الروائي».
ألم يفكّر في الكتابة عن الواقع العراقي في ظل الاحتلال؟ «الوضع في العراق يستعصي على أي روائي مهما كانت عبقريته، إنّه غير معقول، ولا ينطبق عليه حتى وصف العبثية. أنا ككاتب طاقتي محدودة وأعترف بأنني لا أستطيع التعبير عن فصول المأساة المستمرة».
ويلوم التكرلي نفسه لأنه ضيّع جزءاً كبيراً من حياته: «كنت أرى أن الكتابة رفاهية واستراحة من المتاعب. لذلك فحجم كتاباتي ليس بالدرجة التي أحلم بها». وبسبب متاعبه الصحية الحاليّة، لا يعتقد أنه سينجز رواية في وقت قريب. «كتبت أخيراً ثلاث حواريات عن العراق الآن، كتابة الحواريات أسهل عليَّ من كتابة القصة والرواية. يمكن اعتبارها مسرحية تميل الى الحوار الفكري، لقطة حياتية تنتهي بضربة، فيها تهكّم ونكتة سوداء».
ويواصل: «عندما أتوصّل الى الشكل، أبدأ الكتابة فوراً. فكرة «الرجع البعيد» (1980) جاءتني عام 1963 وبقيت أفكر حتى عام 1969 في كيفية إخراجها فنياً. أنا نادم على الوقت الطويل الذي استغرقته في كتابتها. كان يُمكن اختصار الوقت لو بذلت جهداً أكبر. لا طقوس استثنائية لدي أثناء الكتابة، بضع أوراق وقلم حبر أخضر سيّال، وشيء من الموسيقى الكلاسيكية. أمّا القراءة فمسألة أخرى، قضية حياة... لا يمنعني عنها إلّا المرض».
بعد هذه السنوات يراجع التكرلي ماضيه: «لقد أعطت الكتابة معنىً لحياتي... ولم تأخذ مني شيئاً. كانت حبل نجاة من بحيرة الحياة التافهة، وأنقذتني من طموحات الوظيفة. وجعلتني أؤمن بأنّ حياتي لم تكن عبثاً».