العمر الذي قضاه فؤاد التكرلي قاضياً، لم يذهب سدىً. لقد سمحت له تلك السنون التي تجاوزت الأربعين، أن يطّلع على الوجه الآخر لمجتمعٍ قلق أعيدت صياغته بين الحربين العالميتين، وظلّت العسكريتاريا ذات التقاليد العثمانية المطعمة بصرامة وعنجهية بريطانية تتحكم به، بتمظهرات مختلفة لأكثر من قرن. مجتمع يتداعى بين التناقضات، يعاني الفرد فيه ازدواجيات متعددة، بينما تحاول حكوماته المتعاقبة أن تفرض أحادية في الفكر والسياسة.
كان التكرلي مثالاً للموظف الدؤوب، ابن الذوات الذي ينحدر من عائلة عريقة، لها قدسية دينية وحظوة طبقية.
درس القانون مجبراً، سحــره الأدب لكنّه ظلّ متمسكاً بالوظيفة، وسمح له ذلك أن يتنقل بين أمكنة شتى، وتجارب لا حصر لها، ومشكلات إنسانية لم يكن مسموحاً لها بالظهور على السطح في مجتمع متزمت. لم يضطر للبحث، إذ كان يجد بسهولة. فأركيولوجيا الطبقات كانت تكشــــف خفاياهـــــا أمامــــه، وهو كـــان حرّاً في أن يختار أو ينبذ.
ألا يبدو مثيراً أن نكـــتشف أنّ معظم ما كتبه التكرلي يدور حول قضايا خلافية تحتاج الى حكم قانوني: زنى المحارم، جرائم قتل غامضة، جرائم شرف، قضايا إرث معقّدة، احتيالات وطعون، تلك أطياف الموظف الأبدي الذي يطبّق العدالة مـــن منصة القضاء ثم يعيد إنتاج خلاصاتها على الورق في عزلته.
فؤاد التكرلي الذي منح أخيراً جائزة صُممت على عجل من «مهرجـــان المدى» في أربيل تمثّلت في مسلة حمورابي، قد يدرك أكثر من غيره، أنّ لا قوانين حقيقية الآن في البلد الذي شهد تدوين القوانين، وأنّ جوائز الترضية التي تأتي في الدقائق الأخيرة لن تضيف شيئاً الى مسيرته كاتباً وإنساناً.