بيار أبي صعب
ما زالت رائحة الفضيحة تفوح من «أزهار الشرّ» التي غيّرت مجرى الشعر. كان شارل بودلير يعمل ناقداً فنياً، بعدما لفت الأنظار بترجمته لـ إدغار ألن بو، وبمجموعة قصائد عادت عليه باللعنات، لخروجها على المزاج العام والذوق السائد... حين قرر صديقه بوليه مالاسيه، أن يخرج إلى العلن هذا الشعر المكتوب بكلمات أخرى وأحاسيس حقيقية مقلقة. كان ذلك قبل 150 عاماً بالتمام والكمال. كتب غوستاف بوردان في «لو فيغارو»: «هذا الكتاب مستشفى مشرّع على انحرافات النفس البشرية بمختلف أشكالها، وعلى كل ما في القلب من عفن». لقد خدش بودلير مشاعر معاصريه، فاقتيد وناشره الى المحكمة، بتهمة الاساءة إلى الأخلاق العامة. اجتثت من الديوان قصائد ست، عرفت بالقصائد الممنوعة. لكن المزعج حقاً في «أزهار الشرّ»، كان ذلك الدفق النثري المفاجئ الذي سيشرّع الشعر على الحياة، قبل أن يفتح لاحقاً، مع «سأم باريس»، باب قصيدة النثر. «الحداثة» بدأت مع شارل بودلير الذي انقلب على المعايير الجمالية والأخلاقية لعصره. وأعلن القطيعة مع الغنائية المنسابة والرومنسية السقيمة.
جمع الشاعر بين الشرّ والجمال في طِباق نادر، وعبّر عن تناقضات الطبيعة البشريّة. الـ «داندي» الفقير الحريص على هندامه، سكنه ذلك السأم الأبدي (أو السويداء) عنوان احدى أجمل قصائده. عاش متقلب المزاج، منغلقاً على نفسه، محتقراً الجماهير. مثل طائر «القطرس»، أجنحته العملاقة منعته من المشي. كان رجل التناقضات بامتياز: تقدمي في انحيازه الى الأشكال المجددة في الموسيقى والرسم، ومدافع شرس عن التحرر من القواعد، و... عدوّ التقدم في الوقت نفسه! حياته بائسة وفخمة، ماجنة ورائعة، مثيرة للشفقة وللانبهار، مات مبكراً من الكحول والسفلس والأفيون. إنّه الموت الذي سكن شعره، آخر ما تبقّى من رومنسية محتضرة.