خليل صويلح
إذا كان هناك قاسم مشترك تلتقي عنده الأنظمة الشموليّة والقوى السلفيّة اليوم، حسب فخر الدين فيّاض،
فهو معاداة العلمانية بوصفها «بدعة إلحادية». ويرى الباحث السوري أن العرب يدفعون اليوم ثمن تأجيل الإصلاح السياسي ثلاثة عقود، بحجّة الصراع مع إسرائيل تارة، أو أولويّة التنمية القطرية والأمن الغذائي طوراً


يجمع فخر الدين فيّاض في كتابه «النظام الشمولي العربي والإشكال العلماني والديموقراطي» («دار النايا» ــــ دمشق) أكثر القضايا العربية سخونةً في موقد واحد، وينفخ النار تحتها لتزداد تأجّجاً. ويرى الباحث السوري أنّ الفصل بين «النظام الشمولي العربي»، و«المشكل العلماني والمشكل الديموقراطي»... هو ضرب من العبث. ذلك أنّ القضايا الثلاث تشترك بعضها مع بعض، لولا وجود مساحة تعريفية ضيّقة ترتبط أساساً في الجانب العلمي والمعرفي فقط.
النظام الشمولي العربي ــــ كما يؤكد فياض ــــ يقوم على دعامتين أساسيتين هما: إلغاء العلمانية عبر اللعب على أوتار الانقسامات الطائفية والمذهبية، والضرب عرض الحائط بمفهوم الدولة الوطنية. بينما تقوم الدعامة الثانية على تفصيل ديموقراطية ممسوخة تغيب فيها الإرادة الشعبية عن مراكز القرار.
ثلاث قضايا تمثّل كل منها إشكالاً لا يمكن معالجته أو النظر إليه من دون الإشكالين الآخرين. فالنظام الشمولي العربي يعيد إنتاج سيرة جوزيف ستالين إلى اليوم بحذافيرها: «أما إذا وقفتَ أمامه فإنك لا تفكر إلا في مسألة واحدة: هل ستنام عند زوجتك اليوم أم في السجن أم بين يدي الله؟».
هكذا حوّل «ستالينيّو العالم» شعوبهم إلى قطعان ماشية تُقاد كذبائح، بعدما حُقنت بمورفين الخوف. أما «كريزة الحرية» فقد باتت عقاراً وافداً يصيبهم بالغثيان، وصارت شعوب بأكملها لا تجيد سوى «المأمأة والتأتأة والثغاء».
أما المثقّف الديموقراطي العربي فوجد نفسه فجأة ضحية الإرهاب المتبادل بين مطرقة أميركا وسندان الحجّاج بن يوسف، في خريطة تتنازعها مصالح متناقضة. فيما يسعى النظام العالمي الجديد إلى تحويل هذه الخريطة إلى حظيرة خلفية للاقتصاد العالمي، تسعى الحركات الأصولية والأنظمة الشمولية إلى أمثولة الحجاج المشهورة «إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها». ويشبّه فخر الدين فياض العرب بفريق كرة قدم خاسر. وعلى رغم أنّ الجمهور غادر الملعب «يأساً وقهراً وخيبة»، إلا أن المدرّب ما زال مصرّاً على أن شباكه ما زالت «قلعة صامدة ومنيعة». ويتساءل قائلاً: «في صراع الحضارات هناك ضربات جزاء لا ترحم، إلا أنك ماذا تفعل في هذا الصراع ما دام هناك من يصر على أن «الفريق الوطني» سينتصر حتى لو انتحر الجمهور عن بكرة أبيه؟».
في قراءة المشكل العلماني، يرى فياض أنّ خطاب الأنظمة الحاكمة والخطاب السلفي يتّفقان على معاداة العلمانية بوصفها «بدعة إلحادية» كلّ من موقعه. السلفيّون يخشون العلمانية خوفاً من إطاحة مصالحهم وأوهامهم في إمكان بناء حكم ثيوقراطي يعيد سيرة «الفتح» ونشر «الدعوة» بحدّ السيف. أمّا عداء الأنظمة للعلمانية فيتعلق بالنفاق السياسي والشعبي والممالأة المذهبية للشرائح المضطهدة كي تبحث عن خلاصها في أروقة المساجد والكنائس بعيداً من المشاركة الفعلية في الشأن العام.
لكن هل يرحل العلمانيون العرب إلى المريخ؟ يتساءل الكاتب متهكّماً في ظل تواطؤ مشترك بين الأنظمة الحاكمة والتيارات السلفية. فمحنة العلماني العربي أنّه أعزل وسط التيارات المتلاطمة التي ترفض فكرة بسيطة يؤمن بها، هي «الدين لله والوطن للجميع».
لعلّ ما يحدث في العراق اليوم هو أفضل مثال على محنة العلمانية العربية، في نظر فياض. فبديل الاستبداد القومي في حقبة صدام حسين كان الاستبداد الطائفي، ما يذكّر بالحرب الأهلية اللبنانية. وتالياً تحتاج بغداد اليوم برأيه إلى زياد رحباني آخر كي يكتب «نزل السرور» العراقي، لكن بعنف أشد أو في طبعة منقّحة لبوسطة «عين الرمانة» بحكم اختلاف الظروف والأبعاد.
ويعترف الكاتب بأنّ الإشكال الديموقراطي هو المعادلة الشائكة التي تواجه الأنظمة العربية وشعوبها، فإما خيار الاستمرار في بنية النظام القائم على رفض الآخر، وتالياً إلغاء وجود المعارضة ومطالبها بالمشاركة في الحكم... أو تعميم الديموقراطية بضغط خارجي يقود إلى بوابات مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها نسف الوحدة الوطنية. ويشير فياض إلى أنّ هذه المعادلة الصعبة هي بمثابة فاتورة حساب متأخرة، تغطي ثلاثة عقود مضت تم فيها تأجيل معظم الاستحقاقات الوطنية، والضرورات الإصلاحية، بذريعة الصراع مع إسرائيل، أو مفاعيل الحرب الباردة، أو التنمية القطرية التي تحقّق الأمن الغذائي.
ويرى الباحث السوري أن الديموقراطية هي «النقلة الضرورية في رقعة الشطرنج العربية التي لم ينتبه إليها النظام العربي. وها هو يدفع ثمنها حالياً بعدما انكشف الشاه على كل مكامن الخطر ورياح التغيير المقبلة التي تخترق العالم من دون أسوار». كما يشير فيّاض إلى أنّ بنية هذه الأنظمة التي تقوم على الثبات والخوف من التغيير تحاول اليوم عبثاً «ترقيع» المسألة الديموقراطية بخرق بالية. وبدلاً من أن تعمّم الديموقراطية، تستبدلها بمحاولات إصلاحية ضعيفة وهشة، قائمة على جزيئات لا تقي من خطر خارجي، ولا تقدّم استقراراً داخلياً، ولا تحقق مستوى معيشياً يليق بمواطن حر في بلده. ويخلص الكاتب إلى أنّ تأجيل الديموقراطية كلّ هذه العقود، أسهم في أسباب الطلاق بين الأنظمة الشمولية وشعوبها... «وأكثر ما يخشى هذا النظام، أن يفتح عينيه بعد غفلته الطويلة، عن رقعة السياسة الدولية فلا يجد أمامه إلا نقلة إجبارية واحدة: كش مات».
ولعل الفاتورة الأصعب هنا هي كيفية مواجهة أسئلة ومقترحات العولمة والديموقراطية وحقوق الإنسان، إذ لم يعد وارداً على الإطلاق إعادة إنتاج خطاب الصحراء والتمر واللبن وصوت المغنية «دنانير» ورفض منح الديموقراطية «فيزا» دخول، وإلا فستتسلّل بشكل غير شرعي. أمّا شرعة حقوق الإنسان التي ينظر إليها كنشرة سياسية ممنوعة، شأنها شأن الأفلام الإباحية، فهي فاتورة أخرى مؤجلة ينبغي دفعها... وإلا فلن نخرج من التاريخ فحسب، بل سننقرض مثل «مستحاثّات المتاحف وسلاحف النينجا العملاقة».