حسين بن حمزة
في مجموعته الخامسة «يأتي الليل ويأخذني» (دار النهضة)، ينجح الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني في إيصال صوت شعري ذي مزاج خاص. صوت يمزج بين مساحة معجمية وتخييلية واسعة وبين تعددية لافتة في ابتكار الصور. الواقع أن امتلاك شعر راشد ثاني لهاتين الخصلتين يمنحه خصوصية إضافية، في ظل ما يُكتب اليوم من شعر يتّصف معظمه بمعاجم ضحلة وضيقة، وصور واستعارات ذات نوعية شبه موحّدة.
لعل النكهة المتميزة لهذه التجربة تعود إلى قدومها مما اتُفق على تسميته شعرية الأطراف. تجربة تُكتب وتتنفس وتعيش بعيداً عن ضغوط المشهد الشعري الذي يكاد يكون راكداً في المركز، بينما لا تزال أفكار ومقترحات عديدة تُطرح في المحيط والأطراف.
قد تكون هذه الطريقة لائقة باستقبال كتابات أحمد راشد ثاني. القارئ نفسه مدعو إلى قراءة حرة ومستجدة، وغير خاضعة لآلية مسبقة وضاغطة. قصائد المجموعة، بهذا المعنى، أشبه بهدية جميلة ومفاجئة لمن يئس مما يصدر من شعر متشابه، بات كثيره يُكتب بالتقنيات وقليله بالتجربة.
منذ البداية يلمس القارئ المدى الواسع الذي تتحرك فيه جملة الشاعر. ويتضح ذلك في تكرار المفردات التي تسمي أشياء شاسعة بطبيعتها: «البحر، الصحراء، السماء، الهواء، الليل...». لكن هذه المفردات، ليست سوى مواد أوّلية لصنع صور ومشهديات شعرية، تقترح معاملة خاصة للغة القصيدة ومقاصدها. وفق هذه المعاملة، يتلقى القارئ مقاطع من الشعر الصافي المنجز بمخيلة طازجة: «وحينما تفرّقت الغابة بلا ظلال/ وخُيّل للنبع أن الأرض واسعة/ حينها أغلق الهواء ركبتيه/ في وجه البحر/ وأنتج أقفاصاً للصخور/ ومبكىً للأمواج».
يكشف راشد ثاني عن نبرة تقوم على ممارسات نصية متعددة. قد نعثر على نثريات كاملة كما هي الحال في قصيدته الطويلة «دمعة البيت» التي يُكثر فيها من مفاتيح الاتكاءات السردية خلال انتقاله من مقطع إلى آخر. لكنه لا يترك النثر على عواهنه، فنقرأ بين سطوره صوراً ومكونات استعارية مدهشة: «فتحت منزل الغرفة/ أنزلت السقف/ وبدأت في تصفح الجدران». ونقرأ أيضاً: «الملاك الذي في الحمامة أخافها/ فطارت».
ثمة سريالية تطل برأسها في معظم قصائد المجموعة. هناك ميل لدى الشاعر إلى خلط الحواس ومنح العبارة الشعرية حريتها في خلق الصور. يمكن إيراد أمثلة كثيرة تؤكد سعي الشاعر إلى امتلاك نبرة تستثمر عوالم وإمكانات شعرية وأسلوبية شتى. لنقرأ هذه الجملة الفاتنة: «الأفق/ وهو يُدحرج البلدة/ كي تسقط في الغروب». يتمادى أحمد راشد ثاني في سرياليته، حتى أنه ينجز صوراً يصعب على القارئ التكهن بمنشأها التخييلي. لنقرأ: «الشيطان العذب/ الرؤوف كالشمعدان في مخيلة بركة» وكذلك: «عاد حائط الحانة خطوتين إلى الوراء/ حتى لامس البحر».